الألعاب الإلكترونية.. نوع جديد من الإدمان يواجه الحكومات والأسر معًا

 

ردنا – رافق التطور التكنولوجي تطورًا مماثلًا في الكثير من الجوانب الحياتية، فبعد أن كان الصغار يمارسون ألعابًا بسيطة تجمعهم وجهًا لوجه وتضفي البهجة والمرح على الأجواء المحيطة بهم، أصبحنا نراهم صامتين ويصدرون ردات فعل بعضها عنيف خلال تفاعلهم مع مجريات اللعبة التي يمارسونها عبر إحدى الشاشات الحديثة كالحاسوب أو المحمول وسط صيحات بالانتصار وتحقيق أكبر عدد من الأهداف التي تكون ما بين القتل والتدمير وهى شرط لمواصلة التقدم في نوع من الألعاب الإلكترونية.

ومنذ الانطلاقة الأولى لها في خمسينيات القرن الماضي كان يطلق على هذا النوع من الألعاب مسمى “ألعاب الفيديو” ثم مع التطور الرقمي باتت تعرف بـ “الألعاب الإلكترونية”، وما ساهم في انتشارها الطفرة التي شهدتها الهواتف المحمولة المتاحة في أيدي الملايين حول العالم. ورغم أنها تجمع أكثر من طرف في المنافسة لكنها تختلف عن هذا النوع من الألعاب التي نشأنا عليها وكانت تدفعنا لممارسة أنشطة بدنية كالحركة والجري بخلاف هذه الألعاب التي تلزم ممارسيها أماكنهم دون حراك لساعات حتى ينسوا ممارسة طقوس حياتية طبيعية كالأكل والنوم وحتى الاستحمام.

وهذا ما شهدناه في مضمون الدعوى القضائية المرفوعة من قبل مجموعة من الآباء الكنديين ضد الشركة المصنعة لإحدى الألعاب الإلكترونية، حيث جاء في فحوى الدعوى أن اللعبة جعلت أطفالهم مدمنين بشدة، وتوقفوا عن تناول الطعام والنوم والاستحمام لقضائهم ساعات طويلة أمامها.

تلك اللعبة محل الاتهام تضم اليوم أكثر من 80 مليون لاعب في العالم، ورغم عدم اقتناع قاضي المحكمة العليا في كندا بأن اللعبة تسبب الإدمان أو أن الشركة تعمدت ذلك، لكنه في الوقت ذاته رفض النظر إلى الدعوى على أنها “تافهة” أو أن ليس لها أساس من الصحة.

وبررت الشركة المصنعة موقفها بأن الآباء لديهم الصلاحيات الكافية للتحكم في سلوك أطفالهم وتحديد الوقت المناسب لممارسة اللعبة؛ لذا رأوا أن المسؤولية القانونية تقع عليهم لا عليها.

 

صناعة الألعاب الإلكترونية تدر المليارات سنويًّا لكن .. ما مدى المسؤولية الأخلاقية للشركات العاملة في هذه الصناعة؟

مما لاشك فيه أن ملايين الأسر تعاني يوميًّا مع أطفالهم لإقناعهم بالابتعاد عن الشاشات وترك تلك الألعاب لكن دون فائدة أو أي نتائج تُذكر، والشاهد على ذلك الأعداد المرتفعة في عدد اللاعبين على مستوى العالم.

وبالنظر إلى الأرقام المسجلة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، نجد ارتفاعًا ملحوظًا في عدد اللاعبين، ففي عام 2020 بلغ عددهم 2.7 مليار لاعب على مستوى العالم، قسموا إلى: 274 مليون لاعب في أمريكا اللاتينية، و388 مليون لاعب في الشرق الأوسط وإفريقيا، و391 مليون لاعب في أوروبا، و214 مليون لاعب في الولايات المتحدة وكندا، أما آسيا فكان لها النصيب الأكبر بنحو 1,5 مليار لاعب.

وفي عام 2021 بلغ عدد اللاعبين قرابة (2.8) مليار في العالم، ليرتفع بشكل لافت في 2022 إلى نحو (3 مليار) لاعب، وتسجل آسيا (1.48) مليار لاعب من إجمالي هذا العدد.

هذه الأرقام في الثلاث سنوات الماضية عند مقارنتها بعام مثل 2016 نجد فارقًا هائلًا يثبت انتعاش تلك الصناعة الإلكترونية، ففي هذا العام كان هناك 2,5 مليار لاعب من إجمالي 7,67 مليار نسمة على هذا الكوكب، أي أن 36% من سكان العالم مارسوا هذا النوع من الألعاب.

وفي عام 2020 أظهرت بعض الأرقام حجم الاستهلاك لهذه الألعاب، فقد قضى اللاعبون في الفئة العمرية ما بين (18 إلى 64) عدد ساعات قدر بأكثر من 6 ساعات في المتوسط أسبوعيًا، بينما قضى حوالي 26% ما بين ساعة إلى خمس ساعات، و19% قضوا ما بين (6 إلى 10) ساعات، في حين سجل 7% من اللاعبين قضاء أكثر من 20 ساعة في الأسبوع على مستوى العالم، وهذا الرقم الأخير يعد مؤشرًا خطيرًا على إدمان اللعب.

وقد بلغ الاهتمام بهذه الألعاب – على سبيل المثال- إلى حد تخصيص يوم 12 سبتمبر منذ عام 2007م يومًا وطنيًّا لألعاب الفيديو في الولايات المتحدة، حيث وفق بيانات جمعية برامج الترفيه فإن 65% من الأسر الأمريكية لديها شخص واحد على الأقل يلعب بانتظام.

كما أظهرت الأرقام لعام 2022، تقلص الفجوة بين الجنسين في ممارسة الألعاب الإلكترونية عالميًّا، حيث يُعرف 55٪ من اللاعبين بأنهم ذكور و 45٪ إناث. وأن أقل من 10٪ من اللاعبين في جميع أنحاء العالم يعانون من مشكلة إدمان ألعاب الفيديو، وهم في الغالب من الذكور – وهذه النسبة لا يمكن الاستهانة بها إذا نظرنا إلى العدد الإجمالي لعدد اللاعبين والمقدر بـ 3 مليار على مستوى العالم أي إن هناك ملايين يواجهون إدمان الألعاب الإلكترونية.

تلك الصناعة التي تدر أرباحًا قدرت بـ (178.2) مليار دولار خلال عام 2021 مع توقع تسجيل 196 مليار دولار لعام 2022 الذي شارف على الانقضاء، أظهرت نوعًا جديدًا من الإدمان، فوفق إحصائية حول إحدى الألعاب الإلكترونية – التي لا نستطيع ذكر اسمها منعًا من الترويج لها – كشف عن وجود ما بين 16 إلى 29 مليون لاعب عبر الإنترنت خلال الـ 48 ساعة وقت إجراء الإحصائية، وهذا بالنسبة للعبة واحدة فقط.

كما أظهرت الأرقام المسجلة حول أكثر أجهزة ألعاب الفيديو شهرة على الإطلاق – والتي أيضًا لا نستطيع ذكر اسمها- أنها باعت أكثر من 100 مليون وحدة في جميع أنحاء العالم عقب تحديثها مباشرة.

وتعد صناعة ألعاب الفيديو للأجهزة المحمولة هي الأكثر شيوعًا من حيث حصتها في السوق، وقد شهدت الإيرادات خلال السبع سنوات الماضية انتعاشًا واضحًا، حيث شكلت الهواتف المحمولة أكثر من 50% من سوق الألعاب عام 2020، ليرتفع في العام التالي 2021 إلى 57%؛ ويرجع ذلك إلى التطور الهائل الذي شهده سوق الهواتف المحمولة، وإدخال الكثير من المميزات لتتناسب مع الألعاب الحديثة، فقد حققت ألعاب الهاتف المحمول إيرادات تزيد عن 77 مليار دولار خلال العام الأول لجائحة كوفيد-19. بينما تحتل ألعاب الكمبيوتر الشخصي المرتبة الأخيرة مع توقعات بتجاوز عدد لاعبيها 1.8 مليار بحلول عام 2023.

هذه الأرقام السالف ذكرها، شاهد على رواج صناعة الألعاب الإلكترونية عالميًّا من جانب، وقدرتها على الوصول إلى جميع الفئات العمرية منذ عمر السادسة وحتى ما بعد الـ 60 عامًا من جانب آخر، دون وجود ضوابط حقيقية لتنسيق وتنظيم عملها والحد من بلوغ الفئات العمرية الصغيرة الأقل من 20 عامًا إليها. وهنا تقع المسؤولية الأخلاقية والمجتمعية على الشركات المنتجة لتلك الألعاب والتي يمكنها عبر وضع شروط واضحة غير قابلة للاختراق من تنظيم آلية الوصول إلى الألعاب وإعطاء فرصة للأسر لحماية أطفالهم الصغار من استنزاف أوقاتهم أمامها.

 

موقع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من سوق الألعاب الإلكترونية

أظهرت دراسة لـNiko Partners عن وصول سوق الألعاب الإلكترونية خلال عام 2021 في مصر إلى ما نسبته 9,8% من إجمالي إيرادات الألعاب التي قدرت بـ 1,76 مليار دولار في ثلاثة دول بالشرق الأوسط هي (السعودية والإمارات ومصر) وسط توقعات بارتفاع عائد الألعاب في الدول الثلاث إلى 3.14 مليار دولار في عام 2025. وبالنسبة لعدد اللاعبين الذي قدر بـ 65.32 مليون لاعب يتوقع ارتفاع هذا العدد إلى 85.76 مليون لاعب بحلول عام 2025، وسجلت مصر المرتبة الأولى بنسبة 58,7% من إجمالي عدد لاعبي الثلاث دول في 2021.

وبالنظر إلى متوسط أعمار سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي يقل عن 25 عامًا، ونشأتهم في ظل هذا التطور الرقمي وكون تشكيل الألعاب الإلكترونية محورًا في مسألة الترفيه لديهم، نجد أن التوقعات بارتفاع عدد اللاعبين خلال السنوات القادمة أمر يمكن حدوثه في ظل نشأة أجيال تزامنًا مع الطفرات الرقمية التي يشهدها العالم على مدار الساعة، وهو ما يجعل من المنطقة مركز جذب لصناعة الألعاب الإلكترونية العالمية.

وهذا يقودنا إلى مدى مسؤولية الأسرة .. فهل تقع عليها مسؤولية قانونية في حال أدمن أطفالها هذا النوع من الألعاب؟ .. أم أنها مسؤولية مجتمعية متكاملة يشترك فيها الأسرة والدولة والشركات المنتجة للألعاب الإلكترونية؟

في 25 مايو 2019 صوتت منظمة الصحة العالمية رسميًّا لاعتماد “اضطراب الألعاب” كإدمان سلوكي يوازي الاضطراب في الصحة العقلية، دون تحديد عدد ساعات معين، بل اعتبرت أن الشخص يعاني من هذا الاضطراب عندما يكون غير قادر على التوقف عن اللعب، رغم تعارض ذلك مع أنشطة حياتية مهمة مثل العلاقات الأسرية والمدرسة والعمل والنوم. وقد تستمر هذه المشكلات لمدة عام على الأقل.

ويوفر التصنيف الدولي للأمراض (ICD) إطارًا لتحديد الاتجاهات الصحية العالمية، وإدراج أي اضطراب فيه هو أمر تضعه البلدان على مستوى العالم في الاعتبار عند تخطيط إستراتيجيات الصحة العامة ورصد الاتجاهات في الاضطرابات.

وقد تم إدراج “اضطراب ألعاب الفيديو” في ICD-11 من خلال تحليلات الأدلة المتاحة وتوافق آراء الخبراء بمختلف التخصصات، ومن مناطق جغرافية متنوعة. وقد لوحظت خصائص هذا الاضطراب في أجزاء كثيرة من العالم، وهو ما دفع المنظمة لتصنيفه كإدمان تمهيدًا لاتخاذ التدابير الواجبة للوقاية والعلاج منه.

وهو بالفعل ما بدأت بعض الدول في اتخاذها، ففي كوريا الجنوبية أصدرت الحكومة قانونًا يحظر وصول الأطفال دون سن 16 عامًا إلى الألعاب عبر الإنترنت بين منتصف الليل وحتى السادسة صباحًا، أما اليابان فيتم توجيه تحذيرًا إلى اللاعبين في حال تجاوز عدد الساعات المخصصة لممارسة هذه الألعاب شهريًّا.

وفي الصين لا يسمح لمن هم دون الـ 18 عامًا باللعب خارج الوقت المحدد بين الساعة الثامنة والتاسعة مساءً أيام الجمعة والسبت والأحد والعطلات الرسمية، ومن أجل تطبيق القرار يتم استخدام الأسماء الحقيقية ورقم هوية صادر عن الحكومة للعب على الإنترنت حيث يتم إخراجهم في حال تجاوزوا الحد المسموح به في اليوم.

وعلى الرغم من عدم استخدام الولايات المتحدة مصطلح “الإدمان” رسميًّا على لاعبي الفيديو إلا أن الأطباء هناك أعربوا عن قلقهم. وفي بريطانيا أكد عدد من الأطفال ما بين 10 إلى 16 عامًا تغير سلوك أصدقائهم ليصبح أكثر عدوانية وتنمرًا عند ممارسة الألعاب الإلكترونية.

وقد ساهمت جائحة كوفيد-19 في بروز تأثير الألعاب الإلكترونية، فرغم التحذيرات منها إلا أن لجوء الأفراد إليها خلال قضاء الوقت في المنزل، ساهم في زيادة ممارستها مثلما أعلن في إيطاليا عن زيادة بأكثر من 70% في النشاط على الإنترنت بسبب هذه الألعاب. وتكرر نفس الأمر في الولايات المتحدة التي سجلت قفزة بنحو 75% في الألعاب خلال مارس 2020.

وعلى الرغم من رؤية اللاعبين لتلك الألعاب بأنها مصدر للمتعة والإلهام والتحفيز الذهني وتخفيف التوتر. إلا أن ذلك لا ينفي الأضرار الناتجة عنها والتي تصل إلى حد الإدمان، وتجاهل بعض لاعبيها لمسؤولياتهم والتزاماتهم، والعزلة الاجتماعية التي تحيط ببعضهم جراء انغماسهم في اللعبة للحد الذي يفقدهم الاتصال بالواقع المحيط بهم، ومع اشتداد المنافسة واختيار ألعاب قائمة على القتال والعنف يصبح اللاعبون أكثر قابلية لانتهاج السلوك العدواني.

 

المصدر: مرصد الأزهر

 

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.