الصابئون والحنفاء والتداخل الغامض في المصادر الإسلامية

عصام الزهيري

من أبرز ما يلفت نظر قارئ كتاب “طبقات الأمم” للقاضي “صاعد الأندلسي” (ت: 462هـ)، استخدامه التعميمي لصفة “الصابئة” أو “الصابئين” ليشمل كل المؤمنين بأديان ومعتقدات الأزمنة السابقة على أديان التوحيد الإبراهيمية.

كثيرون قد يتوهمون وجود خطأ ناتج عن عدم الدقة، أو الخلط والعشوائية في تعميم مصطلح “الصابئة” على هذا النحو الشامل العالمي؛ خصوصا وأن المفسرين الأوائل للقرآن الكريم رجحوا أن مسمى “الصابئين” الوارد ذكرهم في القرآن بين أتباع الأديان التوحيدية – كاليهودية والمسيحية –، هم بالتالي أتباع دين واحد من الأديان، وأنه يخص طائفة محدودة من المؤمنين به.

غير أن الحقيقة ربما تختلف عن ذلك؛ فالاستخدام المعمم الذي جرى عليه القاضي الأندلسي لمصطلح الصابئة ليس غير الاستخدام العلمي والتاريخي الدقيق من وجهة نظر أحدث مستجدات علم تاريخ الأديان. والحقيقة كذلك هي أن ما نعرفه اليوم عن طبيعة المعتقدات الدينية التي يشار لأصحابها باسم “الصابئة” – وكذلك “الأحناف” –، قد تكون بعيدة عما كانت عليه في واقعها التاريخي.

 

الصابئة في العالم القديم

كما يظهر من عنوانه، يعتني كتاب “طبقات الأمم” للقاضي “صاعد الأندلسي” بدراسة “جميع الناس في مشارق الأرض ومغاربها”، أي سائر البشر الذين عاشوا في العالم القديم المعروف آنئذ، عبر تناولهم من جهة اختلافهم الجغرافي والجنسي والعرقي والعقائدي التاريخي، وهو يقسم الأمم تقسيمًا ثقافيًا وعرقيًا – بغض النظر عن دقته – إلى سبعة أجناس كبيرة، هي: الفرس، الكلدانيون (السريانيون والبابليون)، اليونانيون (الروم والفرنجة)، القبط (مصر والنوبة والسودان)، الترك (الجنس التتري)، الهند والسند، الصين، العرب. ورغم تعدد واختلاف أديان ومعتقدات سائر تلك الأمم يصفها بالتالي:

“فهذه الأمم السبعة كانت محيطة بجميع البشر، وكانوا جميعًا صابئة يعبدون الأصنام تمثيلاً بالجواهر العلوية والأشخاص الفلكية من الكواكب السبعة وغيرها، ثم افترقت هذه الأمم السبعة وتشعبت لغاتهم وتباينت أديانهم”.

لا تعني هذه العبارات على ظاهرها أن المقصود بالصابئة هم عبدة الأصنام أو الوثنيون وغير الموحدين حصرًا، لأن المؤلف يعود وهو يفرد كل أمة بالوصف إلى القول بخلاف ذلك؛ ففيما يتعلق بأمة الهند يقول:

“أما العلم الإلهي فهم مجمعون منه على التوحيد لله عز وجل والتنزيه له عن الإشراك به، ثم هم مختلفون في سائر أنواعه – أي أنواع التوحيد –، فمنهم براهمة ومنهم صابئة؛ فأما البراهمة وهي فرقة قليلة العدد فيهم شريفة النسب عندهم، فمنهم من يقول بحدوث العالم، ومنهم من يقول بأزله، إلا أنهم مجمعون على إبطال النبوات وتحريم ذبائح الحيوان والمنع من إيلامه. وأما الصابئة وهم جمهور الهند ومعظمها؛ فإنها تقول بأزل العالم، وأنه معلول بذات علة العالم التي هي البارئ عز وجل، وتعظم الكواكب وتصور لها صورًا وتتقرب إليها بأنواع القرابين”.

والمفهوم من ذلك أن الصابئة قوم موحدون ومؤمنون بخالق متفرد وأزلي للكون، لكنهم يتوسلون إليه بتعظيم الكواكب؛ الأمر الذي يعود القاضي إلى تأكيده في وصفه لليونانيين بقوله: “ولغة اليونانيين تسمى الإغريقية، وهي من أوسع اللغات وأجلها، وكان عامة اليونانيين صابئة معظمة للكواكب”. وكذلك في وصفه للروم البيزنطيين: “وكان الروم قديما صابئة إلى أن دان قسطنطين ابن هيلاني (الامبراطور البيزنطي الذي عاش بين عامي 272 و337م) بدين النصرانية، ودعا الروم إلى التشرع به، فأطاعوه وتنصروا عن آخرهم، ورفضوا دينهم من تعظيم الهياكل وعبادة الأوثان وغير ذلك من شريعة الصابئة”(1).

 

صابئة موحدون وثنيون، ووثنيون

إضافة تعظيم الهياكل والأوثان إلى عبادة النجوم في معتقدات الصابئة، ربما يسبب الارتباك للقارئ، لكن ذلك هو ما تجمع عليه بالفعل كتب “الملل والنحل” العربية الإسلامية، من بينها كتاب “الشهرستاني” المتوفي سنة 548هـ، ويقول فيه عن الأديان في الأزمنة السابقة على الأديان الإبراهيمية: “كانت الفرق في زمان إبراهيم الخليل –عليه السلام – راجعة إلى صنفين اثنين: أحدهما الصابئة، والثاني الحنفاء”. وفي صفة الصابئة يضيف “الشهرستاني”: “فالصابئة كانت تقول: إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه إلى “متوسط”، لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيًا لا جسمانيًا، وذلك لزكاة الروحانيات وطهارتها، وقربها من رب الأرباب، والجسماني بشر مثلنا، يأكل مما نأكل، ويشرب مما نشرب، يماثلنا في المادة والصورة، “قالو ولئن أطعتم بشرًا مثلكم إنكم إذا لخاسرون”- (المؤمنون: 34).

الاختلاف الذي يرصده “الشهرستاني” بين الصابئة والحنفاء إذًا يكمن في الإيمان بالنبوة البشرية والتصديق برسالة الأنبياء من بني البشر، يقول: “والحنفاء كانت تقول إنا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى “متوسط” من جنس البشر، تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانيات، يماثلنا من حيث البشرية ويمايزنا من حيث الروحانية”(2).

ويتفق “ابن النديم” الذي دوّن كتاب “الفهرست” سنة 377هـ مع تفرقة الشهرستاني بين الصابئة والحنفاء على أساس توحيدي مشترك، مع اعتقاد الصابئة في توسط الكواكب بين الله والبشر، واعتقاد الحنفاء في توسط الأنبياء بينهما. بالإضافة إلى نسبة القول بمصير جميع البشر في النهاية للجنة إلى الصابئة؛ إذ يقول: “وقد حكي عن بعض أوائلهم أنه قال: يعذب الله تسعة آلاف دور، ثم يصير إلى رحمة الله، وإن بعض هؤلاء القوم الذين دعوا إلى الله وإلى الحنيفية يقسمون بها.”(3)

على هذا المنوال التوحيدي تتجسم ملامح الصورة المحتملة لعقائد الصابئة في المصادر العربية، بوصف الصابئة كموحدين يثبتون خالقًا أوحد للعالم ينزهونه عن الشريك، لكنهم يتوسلون إليه – مع ذلك – بأشكال مختلفة من المشخصات المقدسة مثل الكواكب والهياكل والأوثان.

غير أن اختلافًا مع نسبة التصور التوحيدي للصابئة تحمله لنا كذلك المصادر العربية ذاتها، ويعبر عنه “ابن حزم” في كتابه “الفصل” في باب معنون بـ “الكلام على من قال إن فاعل العالم ومدبره أكثر من واحد”، يقول فيه:

“يضاف إلى جملة من قال إن مدبر العالم أكثر من واحد، الصابئون، وهم يقولون بقدم الأصلين نحو ما قدمنا من كلام المجوس، إلا أنهم يقولون بتعظيم الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر، ويصورونها في هياكلهم ويقربون الذبائح والدخن”(4).

وهو ما يخالف ابن حزم فيه القاضي “صاعد” في كتابه سالف الذكر عندما يتعرض بالقول لديانة الفرس (المجوس)؛ فلا يجعل المجوسية جزءً من الصابئية؛ بل يقول بأن الفرس اعتنقوا الديانتين على الترتيب:

“وذكر بعض علماء الأخبار أن الفرس في أول أمرها كانت موحدة على دين نوح عليه السلام إلى أن أتى بوذاسف (بوذا) المشرقي إلى طمهورث، ثالث ملوك الفرس بمذهب الحنفاء، وهم الصابئون فقبله منه وقهر الفرس على التشرع به، فاعتقدوه نحو ألف سنة وثمانمائة سنة إلى أن تمجسوا جميعًا”.

فهل يجعلنا هذا الاختلاف أمام مقولتين متضاربتين تبرران لنا الظن بأن المؤرخين دونوا أخبار عقائد غابرة وأقوام قدماء ليس لديهم علم قاطع بطبيعة عقائدهم أو أن علمهم بها محاط بالخلط والتشوش؟

الواقع أن أحدث الإجابات التي قدمها علم تاريخ الأديان والمعتقدات تعزو مثل هذا التضارب في المصادر التاريخية العربية والإسلامية لا إلى الخلط والتشوش؛ وإنما إلى حقيقة تطور المعتقدات والأديان والطبيعة الغنوصية والأسرارية لعقائد الصابئة السابقة على انتشار عقيدة التوحيد.

 

لغز العقائد المتوسطة

كلمة السر العلمية في التضارب الذي تنطوي عليه المصادر التاريخية العربية فيما يتعلق بعقائد “الصابئة”، يفسره عالم الأديان العراقي “خزعل الماجدي” باستفاضة في كتابه “كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد وأديان التوحيد”؛ حيث يعزو تلك الحلقة المفقودة إلى الفترة الهلنستية (اليونانية) من زمن الحضارة البشرية، وهي الفترة الممتدة من وفاة الإسكندر المقدوني (323ق. م) إلى قيام الدولة البيزنطية (330م).

تلك الفترة وقع فيها واحد من أكبر التحولات العقائدية في التاريخ البشري، وهو الانتقال من عصر الأديان الوثنية والعقائد التعددية إلى عصر الأديان الإبراهيمية وعقائد التوحيد. لكن هذا التحول مر بمرحلة وسيطة هي مرحلة الأديان الغنوصية، أو بتعبير المصادر العربية أديان الصابئة.

عند تمام هذا الانتقال الكبير كما يقول الماجدي: “انتقلت اليهودية من التفريد (الذي هو توحيد ملتبس) إلى التوحيد الصريح، ثم ظهرت المسيحية وهي تحمل تفريدها الخاص (الأقنوم التثليثي) ، ثم ظهر الإسلام بميله الشديد إلى التوحيد الخالص”(5).

يسمي علم تاريخ الأديان المرحلة المتوسطة بين الوثنية والتوحيد بمرحلة الأديان الغنوصية. والغنوص كلمة تعني المعرفية أو العرفانية أو العارفية، وتندرج من تحتها سلسلة متنوعة من الأديان العرفانية الأسرارية، أي تلك الأديان التي تقودها طبقات من الكهنة تلقن أسرارها النورانية الباطنية للمؤمنين بها طبقًا لتراتبية إيمانية وطقوسية متعارف عليها، وهو النظام الذي توافق مع ظهور الأديان الغنوصية في عالم تسوده عقيدة التعدد وعبادة الأوثان.

ولعلنا مع وصولنا لهذا الحد من التحليل، أصبحنا قادرين على استنتاج ذلك الارتباط القوي بين الأديان الغنوصية التي توصلت إليها المصادر المحدثة لعلم الأديان، وبين أديان الصابئة كما وصفتها المصادر العربية والاسلامية.

بداية من مصطلح “الصابئة” الذي يرتبط من حيث دلالة جذره اللغوي بمعنى “الغنوصية”، وهو نور الحق والعرفان، وصولاً إلى تفسير هذا النطاق العريض من عقائد أمم العالم القديم التي أشار إليها المؤرخون المسلمون بأنها عقائد الصابئة. فالصابئة – ومنهم الحنفاء كما تؤكد المصادر الإسلامية – لم يكونوا غير أولئك الموحدين الأوائل على مذاهب متنوعة وأشكال مختلفة من التوحيد، وهي عقائد اعتنقوها في بدايتها بشكل شبه سري (أسراري)، عندما وجدوا أنفسهم وسط بحر من المؤمنين بأديان العالم الوثني القديم.

بعض عقائد الصابئة الغنوصية كانت تقرن عبادة الله الواحد بتقديس الكواكب والنجوم، وبعضها كان يقرن التوحيد بعبادة الأوثان، ومن بين هؤلاء مشركي مكة، وقد أخبرنا القرآن بقولهم عن أوثانهم: “ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى” (الزمر: 3).

وبعض عقائد الصابئة الغنوصية مزجت التوحيد بالثنوية – أي بوجود قوتين إلهيتين متصارعتين-؛ مثل أتباع المجوسية والزرادشتية والمانوية الذين اعتقدوا بوجود صراع أزلي بين النور والظلمة، لكنهم آمنوا في نفس الوقت بوجود رب الأرباب الواحد المتعالي.

كما نستطيع كذلك أن نرجع إلى هذه الحلقة المتوسطة بين الوثنية والتوحيد ذلك التداخل الغامض في المصادر العربية والإسلامية بين الصابئة الذين وسطوا الكواكب الروحانية في الاتصال بينهم وبين الله، وبين الحنفاء الذين اعتمدوا على وسطاء من البشر هم الأنبياء المعصومين، حسب ما يذكر “الشهرستاني”.

 

هوامش:

 

(1) القاضي أبو القاسم صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، تحقيق الأب لويس شيخو، طبعة هيئة قصور الثقافة، القاهرة، 2016.

(2) محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، تخريج محمد بن فتح الله بدران، طبعة هيئة قصور الثقافة، القاهرة، 2014.

(3) محمد بن اسحاق النديم، الفهرست، تحقيق جوستاف فليجل، طبعة الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2018.

(4) أبي محمد علي بن حزم، الفصل في الأهواء والملل والنحل، طبعة دار المعرفة، بيروت، 1983

(5) خزعل الماجدي، كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014.

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.