بين رفض الكاثوليك وقبول البروتستانت.. ترسيم المرأة في الكهنوت المسيحي

محمد يسري

قدمت المسيحية رؤية أكثر مرونة من الرؤية التقليدية التي ظهرت في أسفار العهد القديم. تتضح الأُطر العامة لتلك الرؤية في المبدأ العام الوارد في الإصحاح الثالث من رسالة بولس إلى أهل غلاطية: “لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ”. وضع هذا النص مبدأ للمساواة بين الذكور والإناث، وأن الجميع يصبحون متكافئين عند الإيمان بيسوع.

ومع ذلك، لا يخلو العهد الجديد من تفاصيل مناقضة تماما لهذه الصورة العامة. على سبيل المثال، تظهر التفرقة بين الجنسين في الإصحاح الخامس من رسالة بولس إلى أهل أفسس: “أَيُّهَا النِّسَاءُ اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ، لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ الْجَسَدِ. وَلَكِنْ كَمَا تَخْضَعُ الْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذَلِكَ النِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ”. وتظهر هذه التفرقة أيضا في الإصحاح الرابع عشر من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس: “لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ، لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُونًا لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ، بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيْضًا”. في هذا السياق، يحضر السؤال عن دور المرأة في الكهنوت المسيحي، وعن إمكانية توليها للوظائف الدينية المختلفة. هو الأمر الذي سنسلط عليه الضوء في هذا المقال.

 

العذراء والمجدلية.. نساء المسيحية المبكرة

عرفت المسيحية عددًا كبيرًا من النساء اللاتي لعبن أدوارًا مهمة في تاريخها المبكر. تأتي مريم العذراء، أم المسيح على رأس القائمة. تؤكد السردية المسيحية على أن العذراء ولدت المسيح بشكل إعجازي، وعلى أنها قدمت له الحماية وأبعدته عن أيدي أعدائه، كما أنها ربته حتى بلغ مبلغ الرجال. وبعدها آمنت بتعاليمه وتبعته بثبات حتى صُلب في تل الجلجثة.

منحت الكنائس المسيحية مريم واحدًا من الألقاب الدينية التي لا مثيل لها، وهو لقب أم الإله (ثيوتوكوس)”. يذكر قاموس المصطلحات الكنسية الظروف التي أحاطت بظهور هذا اللقب، فيقول: “قام مجمع أفسس المسكوني المقدس الذي انعقد سنة 431م، بحضور 200 من أساقفة العالم، بإقرار عظمة العذراء ووضع مقدمة قانون الإيمان التي ورد فيها: “نعظمك يا أم النور الحقيقي ونمجدك أيتها العذراء القديسة والدة الإله لأنك ولدت لنا مخلص العالم. أتى وخلص نفوسنا”.

من جهة أخرى، أقرت المسيحية بما ورد في العهد القديم من جواز تسمية بعض النساء بالنبيّات. في هذا المعنى، جاء على لسان بطرس في الإصحاح الثاني من سفر أعمال الرسل، أنه لمّا حلت الروح القدس على الرسل في اليوم الخمسين من قيامة المسيح، أنه قال: “بَلْ هذَا مَا قِيلَ بِيُوئِيلَ النَّبِيِّ. يَقُولُ اللهُ: وَيَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَمًا”. القول الذي يحمل اعترافًا واضحًا بنبوة بعض النساء. في هذا السياق، كانت بنات فِيلُبُّسَ الْمُبَشِّرِ من أشهر من لقبن بالنبيّات في العهد الجديد.

اشتهرت أيضًا مريم المجدلية في الفترة المبكرة من المسيحية باعتبارها واحدة من أقرب الشخصيات النسائية للمسيح. عُرفت المجدلية باسم رسولة الرسل، وكانت أول من رأى المسيح بعد قيامته من الموت، حسب المعتقدات المسيحية. حينها، قال لها: “لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ …”، وذلك بحسب إنجيل يوحنا. يتحدث الإصحاح العاشر من إنجيل لوقا أيضًا، عن الأختين مريم ومرثا اللتين علمهما المسيح بنفسه تعاليم الشريعة.

 

طابيثا ودميانة وهيلانة.. القديسات في حقبة الرسل

عرف العالم المسيحي في فترة الرسل (السبعون سنة التالية لقيامة المسيح) العديد من النساء اللاتي اضطلعن بمهام مؤثرة ومحورية. يذكر الإصحاح التاسع من سفر أعمال الرسل قصة طابيثا التي قامت من الموت على يد بطرس، فيقول: “وَكَانَ فِي يَافَا تِلْمِيذَةٌ اسْمُهَا طَابِيثَا، الَّذِي تَرْجَمَتُهُ غَزَالَةُ. هذِهِ كَانَتْ مُمْتَلِئَةً أَعْمَالًا صَالِحَةً وَإِحْسَانَاتٍ كَانَتْ تَعْمَلُهَا. وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ أَنَّهَا مَرِضَتْ وَمَاتَتْ، فَغَسَّلُوهَا وَوَضَعُوهَا فِي عِلِّيَّةٍ.. فَأَخْرَجَ بُطْرُسُ الْجَمِيعَ خَارِجًا، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْجَسَدِ وَقَالَ: «يَا طَابِيثَا، قُومِي!» فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا. وَلَمَّا أَبْصَرَتْ بُطْرُسَ جَلَسَتْ، فَنَاوَلَهَا يَدَهُ وَأَقَامَهَا. ثُمَّ نَادَى الْقِدِّيسِينَ وَالأَرَامِلَ وَأَحْضَرَهَا حَيَّةً. فَصَارَ ذلِكَ مَعْلُومًا فِي يَافَا كُلِّهَا، فَآمَنَ كَثِيرُونَ بِالرَّبِّ”. ووردت أيضًا أسماء العديد من النسوة اللاتي حظين بإشادة بولس خلال رحلاته المتعددة في آسيا وأوروبا. من تلك النسوة كل من بريسكّلا، وتريفينا، وتريفوسا، وبرسيس.

وظهرت العديد من القديسات مع وقوع الاضطهاد البيزنطي للمسيحيين، منهن القديسة دميانة في مصر، والقديسة مارينا الراهبة في سوريا، والقديسة مونيكا في شمال أفريقيا، وهي أم القديس أوغسطينوس، والذي يُعد واحدًا من أهم رجال الدين المسيحي عبر التاريخ.

وقد تزامن تصالح الإمبراطورية البيزنطية مع المسيحيين مع ظهور القديسة هيلانة والدة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول، وهي التي “عثرت” على “الصليب المقدس” (الصليب الذي صلب عليه المسيح)، كما لعبت دورًا مهمًا في إقامة كل من كنيسة المهد ببيت لحم، وكنيسة القيامة بأورشليم.

 

المرأة والكهنوت

يؤكد الإصحاح الأول من سفر التكوين أن الله خلق آدم وحواء على صورته، فيقول: “فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ”. رغم ذلك، اعتاد العقل المسيحي الجمعي على الإشارة لله في صورة ذكورية. فالأقنوم الأول هو الأب، والأقنوم الثاني هو الابن. ولم يكن من المستساغ أبدًا قبول الإشارة إليهما بالأم أو الابنة.

كان من الطبيعي -والحال كذلك- أن نجد أن معظم الوظائف الكهنوتية في المسيحية -مثل الأب، والبطريرك، والبابا- تحمل بالأساس صبغة لغوية ذكورية. الأمر الذي تماشى مع تعاليم العهد القديم، تلك التي أكدت على أن وظائف الكهنوت مقصورة على الرجال فحسب.

يؤكد القمص صليب حكيم في كتابه “سؤال وجواب” على هذا المعنى، فيقول: “إن الذي يقوم بالخدمة الكنسية من إقامة الذبيحة وقيادة الشعب في الصلاة والتسبيح وقراءة فصول الكتاب وسيرة قديس اليوم والوعظ والتعليم هو الرجل”. يستشهد على ذلك بأن المسيح اختار اثني عشر رجلًا كتلاميذ له، كما اختار سبعين رجلًا آخرين وأرسلهم للتبشير، بينما لم يختر امرأة واحدة لتلك المهمة.

من هنا، ترفض الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية ترسيم المرأة في أي وظيفة من وظائف الكهنوت. تسمح الكنيسة الأرثوذكسية للنساء بأن يخدمن في الكنيسة في منصب الشماس فقط دون غيره من المناصب، مع العلم بأن منصب الشماس من المناصب غير الكهنوتية، أي التي لا تدخل ضمن سر الكهنوت. وتعتمد الكنيسة في إباحتها تولي النساء لهذا المنصب لسابقة تاريخية وردت الإشارة إليها في سفر رسالة بولس إلى أهل رومية. ورد في هذا السفر الحديث عن فيبي الشماسة، والتي أشار بولس إليها بالقول: “أوصي إليكم بأختنا فيبي خادمة الكنيسة التي في كنخريا كي تقبلوها في الرب كما يحق للقديسين، وتقوموا لها في أي شيء احتاجته منكم لأنها صارت مساعدة لكثيرين ولي أنا أيضًا”. كتبت فيبي الرسالة إلى أهل رومية، على لسان بولس، ثم أوصلتها إلى المؤمنين فيما بعد.

يذكر الأنبا متاؤس في كتاب “الشمامسة والشماسات” أنه من الشروط التي تراعيها الكنيسة القبطية عند اختيار الشماسات أن تكون عذراء أو أرملة أو تكون بلغت الستين من عمرها. تقوم الشماسة بعدد من الوظائف المساعدة، ومنها معاونة الكاهن في طقوس تعميد النساء، والتناول، وتنظيف الكنيسة، ومساعدة العجائز والمرضى، والتدريس في مدارس الأحد.

يبدو رفض الكنيسة الكاثوليكية لسيامة النساء في المناصب الكهنوتية أكثر وضوحًا. خصوصًا مع رفضها لتعيين النساء في منصب الشماسة حتى، وفي ظل انتشار الكثير من القصص التراثية التي تتهكم على دخول النساء للإكليروس (الاسم الذي يُطلق على النظام الكهنوتي الخاص بالكنيسة).

من تلك القصص قصة “البابا” جون الثامن. تحكي بعض السرديات التي تعود للعصور الوسطى أن واحدة من الفتيات الألمانيات انضمت لأحد الأديرة المخصصة للذكور فقط، وأنها تنكرت في هيئة شاب، ولم تلبث أن ترقت في المناصب حتى وصلت لمرتبة الكاردينال، وبعدها تم اختيارها كبابا تحت اسم جون الثامن. بقيت الفتاة في منصبها لمدة سنتين كاملتين، ثم انكشف أمرها أثناء مرور موكبها البابوي في أحد الميادين. تذكر القصة أن الفتاة كانت حاملًا، وأن المخاض قد باغتها، لتلد طفلها أمام عيون الناس المحيطين بالموكب!

طبعا، تحيط بهذه القصة الكثير من الشكوك، وهي أقرب إلى الرواية الشعبية، خاصة أن الروايات تختلف حول مصير الفتاة المتنكرة ووليدها. وتزعم بعضها أنهما رُجما حتى الموت، في حين تكتفي روايات أخرى بالقول إنهما نُقلا إلى أحد الأديرة البعيدة.

يختلف الوضع في الكنائس الأخرى. على سبيل المثال، أعلنت الكنيسة الإنجليكانية -كنيسة إنجلترا- في مؤتمر لامبث سنة 1988م عن إباحتها سيامة المرأة في منصب القسيس، أو في منصب الأسقف. أما الكنائس البروتستانتية -وهي الكنائس التي ظهرت في أوروبا في عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر الميلادي، ولا تؤمن بسر الكهنوت- فأجازت سيامة النساء في المناصب الكهنوتية. على سبيل المثال، قامت الكنيسة اللوثرية في الولايات المتحدة الأميركية في سنة 1970م، بسيامة إليزابيث ألفينا بلاتز كأول امرأة تُعين في منصب قسيس في قارة أميركا الشمالية.

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.