وادي النصارى.. “إمارة مسيحية” هادئة في سوريا

ردنا – تمثّل منطقة “وادي النصارى” حالة استثنائية في سوريا. ففي ظِل ظروف الحرب التي عصفت بالبلاد، وسمحت للجماعات الإرهابية المسلحة بالانتشار في مساحاتٍ واسعة منها، هرب الآلاف من مسيحيي سوريا إلى الخارج نجاةً بحياتهم.

بعض القرى المسيحية كادت أن تفرغ من سكانها بعدما فضّل أهلها الهرب بدلاً من الوقوع بيد الجماعات الإرهابية المسلحة.

شكّل “وادي النصارى” استثناءً لكل هذا، فلم تخلُ قراه تمامًا كما جرى في ريف حماة، على سبيل المثال، وإنما أصبح قِبلة هجرة محلية للمسيحيين الهاربين من نار الحرب، بل وبعض المسلمين أيضًا.

 

لماذا امتلك الوادي هذه الخصوصية؟ وكيف حافظ عليها؟

 

تجمع مسيحي حصين

يتبع وادي النصاري محافظة حمص ويقع بالقرب من الحدود مع لبنان. وهو تجمّع لقرابة 40 قرية أغلب سكانها مسيحيون (أرثوذكس ونسبة قليلة كاثوليكية)، من أشهر تلك القرى: حب نمرة، الحواش، الناصرة، المزينة، كفرا، مرمريتا وغيرها من القرى التي يقطن فيها التجمّع المسيحي الأكبر في سوريا.

يقع الوادي بين الجبال الحصينة، ويأوي عددًا من المعالم السياحية الهامة، مثل تمثال السيدة العذراء المبني على قمة جبل السايح، وكذلك دير مارجرس الحميرا وكنيسة الشحارة.

يقول جورجي كنعان في كتابه “محمد واليهودية” إنه من المعروف أن كل بلدة مسيحية سورية كانت تتخذ لنفسها “شفيعًا” يتعهدها بالحماية ويغفر لأفرادها آثامهم. ويضيف “مارجرس مثلاً، له مقام في الجبال المُطلة على البحر، هو شفيع القرى والبلدات المسيحية الموجودة في وادي النصارى”.

قريتان في الوادي -بلدة الحصن وقرية الزارة- تعتبران استثناء لهذه القاعدة، فلا يُشكل المسيحيون فيهما أغلبية، وإنما أكثر سكّانهما من المسلمين السُنة.

 

بين سوريا ولبنان

تشكّلت الأغلبية المسيحية في الوادي أعقاب وقوع سوريا تحت الاحتلال العثماني في بداية القرن السادس عشر. وهي الخطوة التي أثارت مخاوف مسيحيي سوريا، فلجأوا إلى هذه المنطقة التي تحيط بها الجبال، معتقدين أنه ستكون حصينة كفاية لصدِّ أي هجماتٍ تقع ضدهم.

انتهت الحقبة العثمانية على الوادي بعد الحرب العالمية الأولى بعدما فرضت فرنسا سيطرتها على منطقة الشام، عدا فلسطين، بموجب قرارات الانتداب التي أصدرتها الأمم المتحدة.

في سنة 1920، أعلن المندوب السامي الفرنسي الجنرال هنري گورو اقتطاع المناطق الساحلية (بعلبك، البقاع، راشيا، حاصبيا) لتشكيل دولة جديدة عُرفت بـ”لبنان الكبير”.

ويقول الأكاديمي اللبناني كمال ديب، في كتابه “هذا الجسير العتيق”، أن فكرة ضمِّ وادي النصارى إلى لبنان بدلاً من سوريا طُرحت وقتها، لكن الموارنة رفضوا بسبب أغلبية الوادي الأرثوذكسية ورغبة الموارنة في الحفاظ على “الطابع الكاثوليكي للكيان الجديد” (لبنان).

لكن لويس صليبا، الكاتب والباحث لبناني في الأديان المقارنة، يستبعد هذا في كتابه “لبنان الكبير”. ويقول إن مسألة ضم وادي النصارى إلى لبنان كانت مستبعدة عند زعماء الموارنة والفرنسيين بسبب النهر الكبير الجنوبي الذي يفصل بين لبنان وسوريا، ويشكّل فاصلاً طبيعيًا بين البلدين، وقد اعتبرته جميع الأطراف حدًّا جغرافيًّا طبيعيًا للدولة المزمع إنشاؤها.

هكذا، ظلَّ الوادي سوريا تقطنه أغلبية مسيحية منحته اسمها (“وادي النصارى”)، وهو الأمر الذي تغيّر في زمن الوحدة مع مصر، بعدما تقرّر إلغاء تسمية أي مكان تحمل “بُعدًا طائفيًا”، فتغير اسم “جبل الدروز” إلى “جبل العرب”، أما “وادي النصارى” فأصبح “وادي النضارة”، وهو الاسم الرسمي له حتى الآن لكنها بقيت تسمية غير شائعة بين الناس. واستمر الجميع في استخدام الاسم القديم للمنطقة: “وادي النصارى”.

 

الحرب في سوريا

عند بدء الحرب في سوريا، وقف الكثير من سكان الوادي مع الحكومة السورية، حتى أن عددًا من أبنائه تطوعوا للقتال دفاعًا عنه ضمن ما يُعرف بـ”قوات الدفاع الوطني”. وبالرغم من معارضة بعض سكان القرى للحكومة، إلا أنهم اعتبروه أهون الضررين إذا ما قُورن بالجماعات الإرهابية المسلحة التي دخلت في حربٍ مع الحكومة السورية.

في بعض مراحل الحرب، تقدّم مسلحو “داعش” في الشرق السوري. وسيطر بعض المسلحين الإرهابيين على بلدتي الزارة والحصن القريبتين جدًا من وادي النصارى، وهو ما أثار رعب سكانه من أن يصل إليهم مقاتلو تنظيم داعش ويفعلون بهم ما فعلوه بمسيحيي الموصل.

وضاعف من هذا الخوف انتشار جبهة النصرة، المحسوبة على تنظيم القاعدة، في ريف حماة، ما دفع أبناء بلدة “محردة” المسيحية الكائنة في الريف إلى الهرب فورًا إلى وادي النصارى.

مشاهد نزوح أهالي “محردة” وحدها إلى القرى المسيحية في الوادي أثار الرعب وسط الباقين من أن يلاقوا مصيرًا مماثلاً. لحسن الحظ، تبدّدت هذه المخاوف كلها، عقب هزيمة مقاتلي داعش ورحيلهم عن محيط الوادي.

بعدها، تمتّع الوادي بحالةٍ من الهدوء مكّنته من إعادة تنظيم مهرجان غنائي كبير العام الماضي، وهي إحدى العادات القديمة في الوادي.

توافد على الحدَث آلاف المسيحيين السوريين الذين هاجروا إلى خارج البلاد فور وقوع الحرب. واستضافت كنيسة قرية القلاطية هذا الحدث، الذي تضمّن فعاليات تراثية وفلكلورية لإعادة تذكير المهاجرين -وأبنائهم- بالتراث السوري الذي غابوا عنه طيلة السنوات الفائتة.

 

المصدر: مواقع إلكترونية
مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.