لماذا نبرّر الأوامر الإلهية بحجج بشرية؟

دعاء حسين

في المدرسة، جلسنا جميعاً متحمسين، فاليوم أول أيام رمضان، وبالتأكيد ستحدثنا المعلمة عنه وعن روعته، سنحكي لها عن الفانوس المضيء، والزينة الملونة، عن صلاة الجماعة التي تعلمناها جديداً وجمال كل شيء في رمضان.

وهكذا كأطفال صِغار كنا مؤهلين لنمتص كل كلمة تقال لنا، وكل معلومة جديدة تكتسبها عقولنا، لم تُخيب المعلمة آمالنا، حكت عن كل ذلك، وكذلك قالت لنا بتأكيد:

“نحن نصوم رمضان كي نشعر بالفقراء”

هكذا استقر في أعماقنا الصغيرة أن الصيام فقط كي نشعر بالفقراء المحتاجين، والذين لا يستطيعون شراء الطعام الجميل، وعندما نجوع سنتذكرهم ونعطيهم من الخير الذي أرسله لنا الله.

ولكن عند عودتنا رأيت سيدة بسيطة تجلس فوق الرصيف في السوق وبجانبها فتاة صغيرة مثلي، عندما وقفنا لديها وأهديتها قطعة شيكولاته أخبرتني أنها صائمة وستتناولها بعد الإفطار.

كانت هذه المعلومة محيرة، سألت والدي ووالدتي: هل هذه السيدة تُعد من الفقراء؟ فأكدوا لي ذلك، فزادت حيرتي طالما هي من الفقراء فلماذا تصوم؟

 

وهل يصوم الفقراء أيضاً؟

إن كانت حكمة الصوم أن نشعر بهم فلماذا يشاركوننا فيه؟ لماذا لا يفطر الفقراء ليستمتعوا في شهر رمضان بالأعطيات الربانية التي يرسلها الله لهم عن طريق الصائمين الأكثر تيسيراً؟

ظلت هذه الحيرة تكبر معي بلا إجابة لسنوات حتى كبرت ونسيت الأمر، فالخطاب العام لكل من حولنا يتحدث عن الشعور بالفقراء، ليس الأمر تأصيلاً دينياً، ولكنه أشبه برأي عام تتداوله الأجيال.

 

هل لا يملك الفقراء الماء؟

في رمضان آخر بعد سنوات سمعت رجلاً يخبر طفله الذكي المتسائل عن الشعور بالفقراء نفس الشيء، فعندما سأله الطفل: “لماذا نصوم؟” جاءت إجابة الرجل كالمعتاد: “كي نشعر بالفقراء”، فما كان من الطفل إلا أن سأل ببراءة: “وهل لا يملك الفقراء الماء؟” إن كنا نصوم لنشعر بهم فلما نصوم عن الماء كذلك وهو متوفر للجميع.

تذكرت أفكاري القديمة وبدأت أنتبه أن الاستسهال غذى حياتنا فلم نعد نتفكر، لست أهلاً للفتوى، وأؤمن بشدة بحديث “أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار”، ولكني أحب في هذا الشهر الكريم أن أتفكر كانسان وكمسلمة فيما يقوله البشر عن الدين وفي الخطاب السائد الذي يقدم بلا أي سند ديني من القرآن أو السُّنة.

 

لماذا نحب دائماً تأويل الأوامر الربانية بحجج بشرية لنقبلها؟

الله شرع لنا الصيام لنصبر عن الحلال؛ عن الطعام والشراب اللذين أحلهما لنا الله، وهكذا نتعلم أن نصبر عن الحرام الذي نهانا عنه.

الله شرع لنا الصوم، وقال لنا في الحديث القدسي/النبوي الصحيح: “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به”، فإن كان ثواب الصيام تركه الله لمشيئته: فلماذا نرفض التسليم بأننا نصوم؛ لأننا أمرنا أن نصوم.

فالغني يصوم، والفقير يصوم، والغني عندما يصوم في الأغلب تزخر مائدة إفطاره بكل ما لذ وطاب، فلا يشعر بالفقير من الأساس، بل ربما يتفنن الجميع في جعل موائد رمضان عامرة بأكثر من المعتاد، فيتحول رمضان لاحتفالية يحظى الطعام فيها بالنصيب الأكبر من طرق الاحتفال.

والواقع يقول إننا نصوم رمضان ولا نشعر بالفقراء، وإن الفقراء يصومون رمضان ولا ينتظرون أن يشعر بهم الآخرون، فكلنا غني وفقير نصوم رمضان امتثالاً للأمر الإلهي بالصيام.

 

شكلي أحلى بدون حجاب وشعري صحته أفضل

نعم لم يقتصر الأمر على الصيام، ففكرة إيجاد تبرير دائم لتقبل العبادات تشمل أغلب العبادات، لو نظرنا حولنا سنجدها في كل مكان، فتجد دائماً من يؤكد أن الحجاب يحمي الشعر من الشمس والأتربة، وأن شكل الفتاة بالحجاب أجمل كثيراً منها بدونه.

لو فكرت لثانية منطقياً ستجد تناقضاً حقيقياً في هذه الجملة، أنا كشخص مؤمن بفرضية الحجاب، أؤمن بأن جزءاً من أسباب ارتدائه هو الحشمة ومداراة الجمال، فكيف يجعلني أجمل؟ هل إن جعلني الحجاب أجمل عليَّ أن أخلعه؟

هل لو عشت في بلد بلا شمس حارقة ولا تراب يمكنني التخلي عن حجابي وقتها فلم تعد لي حاجة به؟ وماذا عن رأي الطب بأن الحجاب يسبب تساقط الشعر عند البعض، خاصة من ترتديه لفترات طويلة؟ هل تخلعه أيضاً لأن شعرها يتضرر؟!

الواقع والإجابة مرة أخرى أن إيماني بفرضية الحجاب هو السبب في كوني أرتديه؛ لأنني أراه أمراً إلهياً لا يحتاج لوجود فوائد دنيوية لأقتنع به، فنحن لا نرتديه لأنه يجعلنا أجمل، ولا نرتديه لأنه يحمي شعورنا من التراب والشمس، ولا نرى أنفسنا حلوى مغطاة أطعم وأجمل من الحلوى المكشوفة، فالمنطق –بالمناسبة- يقول إن الحلوى المكشوفة أجمل وأطعم ومثيرة للاهتمام أكثر، وكل دارس للدعاية والإعلان يعرف ذلك، لا نحتاج لمبررات دنيوية، ولا لأمثلة عقيمة طفولية تحببنا به، فلو انتفت كل الفوائد، سنظل نرتديه؛ لأننا نؤمن بوجوبه.

 

أقيم الصلاة ولا أذهب إلى الجيم

نعم هو نمط ستجده في أغلب العبادات، فالصلاة ستسمع الكثيرون يؤكدون كونها رياضة ممتازة، وتحسن المفاصل وتقوي العضلات وتحسن حركة الدماء في الجسد، يمكنك أن تجد في عشرات المواقع فوائد رياضية للصلاة تجعلها تدخل الأولمبياد.

ولكن هل نصلي كبديل للذهاب للجيم؟ هل سنقيم الصلاة ولا نذهب للجيم، فنكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد؟

هل حقاً يجب أن نختزل واحداً من أهم أركان الإسلام، بل الركن الذي قيل عنه في الحديث النبوي الصحيح: “أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله” أنها رياضة مفيدة للجسد؟

 

الدين أكبر من ذلك

رغم علمي أن مُصدري هذا الخطاب في الأغلب حسنو النية، فهم يحاولون إيجاد المبررات والأمور التي قد تحبب في العبادات ليَسهُل على الجميع القيام بها. ولكن ذلك في رأيي الشخصي، فعل جانبه الصواب، فالدين أكبر من ذلك.

ومحاولة وضع مبررات للطاعات والعبادات للحث على القيام بها ينتقص منها، فلا الصلاة ولا الصيام ولا الحجاب ولا أي عبادة مهما عظمت أو صغرت تحتاج إلى تبرير.

الشخص المُسلم المؤمن الذي اتخذ الإسلام ديناً، يتبع أوامر ونواهي دينه كما فرضه الله، قد يُقصر، قد يُخطئ ولكن يظل ذلك كله في نطاق الضعف البشري الذي يحاسبنا عليه الله بعلمه، إلا أن الأساس هو الإيمان بهذا الدين والتسليم لأوامر الله لنا.

فنصلي ونصوم ونتعبد امتثالاً لأمر الله، تقرباً له، حباً في الطاعات، ورغبة في إرضائه، وطمعاً في جنته، بل جزء من أيماننا أن الدنيا حُفت بالمكاره، وأن الإنسان خُلق في كَبد، لذا فنحن نتحمل المشاق في بعض الأحيان كي نرضي الله ونفوز بالأجر.

فأجري عن الصيام بالامتثال والتسليم للأمر الإلهي، والفوز بإذن الله بجهاد النفس وتحمل المشقة –إن وجدت- في الصلاة، ونداري جمالنا ونرتدي الحجاب تقرباً.

لا نفعل العبادات لأنها مفيدة، ولا لأننا سنستفيد في الدنيا من هذه العبادة، لا نعبد الله على حرف، فإن استفدنا عبدناه وإن انتهت الاستفادة نكثنا وتوقفنا، بل نعبده وإن كانت في العبادات مشقة، نعبده حباً وطمعاً وطاعة.

 

وأخيراً

فما استقرت عليه نفسي وما هدأ له عقلي، أننا بالتأكيد نؤدي العبادات تسليماً للأوامر الإلهية وتنفيذاً لما أمرنا به الله، وليس لكونها مفيدة جسدياً أو لأي مبررات دنيوية قد تصيب أو تُخطئ ولكنها ليست الهدف من عبادتنا.

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.