الأزمات الاقتصادية بين المصارف الإسلامية والنظام العالمي

د. عمر هارون

إن المتتبع لمسيرة المصارف الإسلامية سيلاحظ بوضوح السرعة التي تطورت بها والقيمة التي احتلتها على صعيد العمليات التمويلية، خاصة وأن هذا النوع من النشاط يعتمد على التعامل في الدائرة الحقيقية ويبتعد أيما ابتعاد عن الدائرة الوهمية للاقتصاد.

وهذا يرجع كما هو معروف للخصائص التي تتمتع بها الصيرفة الإسلامية ومن ورائها الاقتصاد الإسلامي الذي أوجد مصطلحات جديدة كالجانب الاجتماعي، وتحريم الربا، والغرر، ومساعدة المتعثرين من المقترضين، كما ألغى مصطلحات أخرى من القاموس البنكي كالفائدة، والأرباح الثابتة.. وهذا ما يعتبر كفرا بمبادئ الصيرفة التقليدية الربوية، لا بل وبأفكار وأسس الاقتصاد الوضعي، ومن هذا يتضح أن المصارف الإسلامية ليست فكرة اعتباطية ولا هي آتية من فراغ، بل هي بناء يعتمد على أساس وثيق ألا وهو الإسلام.

أحدث الإسلام انقلاباً واسعاً في النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة في الحياة الجاهلية، والتي كانت تتمحور في جملتها حول النزوع إلى الفردية والصراع والظلم والعنصرية وحرمان الضعفاء من كل الحقوق. وبنزول الوحي على المصطفى عليه الصلاة والسلام، قرر الإسلام التكافل بين أفراده في جميع مجالاته المتعددة، وذلك لإيجاد مجتمع متعاون مترابط، فالناس فيه ليسوا على نسق واحد في المستويين العلمي والمعيشي، بل يتفاوتون في أوضاعهم وأحوالهم، فمنهم الفقير، والمريض، واليتيم، والعاجز، والعالم، والجاهل، والغني… وهم جميعا يحتاجون إلى تنظيم دقيق يرتب لهم أمور معيشتهم، ويرعى أحوالهم، ويهتم بشؤونهم، ويحقق التوازن بين مختلف فئات المجتمع دون خلل أو تقصير، حتى يشعر كل فرد بعضويته الكاملة في المجتمع، ويقوم بعمل ما عليه من واجبات وينهض بأعبائه.

يولي الإسلام عنايته الكبرى باقتصاد الأمة، ومعنى التكافل الاقتصادي هو أن يتعاون الجميع في المحافظة على ثروات الأمة بتقديرها وصيانتها وأن يعمل المجتمع على حفظ ثروات الأفراد من الضياع والتبذير، كما يمنع سوء استعمال الاقتصاد من خلال التلاعب بالأسعار والغش في المعاملات والاحتكار، وهي محاذير بالغت الأنظمة الاقتصادية الحديثة من الوقوع فيها، مما جعل المسلمين يجدون أن العودة إلى أصلهم فضيلة كبيرة فرّطوا فيها لمدة طويلة امتدت تقريبا من سقوط الأندلس في يد الأوروبيين وصولا إلى ستينيات القرن الماضي. وإن كانت أهم موارد المجتمع الإسلامي هي الزكاة، والكفارات، والنذر، والصدقات، والهبات، والوقف، فإن المصارف تمتد إلى كل ما يحسِّن حياة الناس ويومياتهم. وبما أننا اليوم في مجتمعات مدنية، فإن أهم ما أصبح يشغل الناس هو كيف يمكنهم إيجاد آليات لتسيير شؤونهم المالية دون مخالفة تعاليم مرجعيتنا الإسلامية؟ وهل هذا الأمر ممكن في عصر أصبح الحديث عن معاملة غير ربوية أمرا شبه مستحيل؟

يعتبر الزبون ملكا في كل الأعراف الاقتصادية والدولية، وهذا ما يجعل تكييف المعاملات المالية والمعتقدات الإيديولوجية أمرا عاديا ومقبولا بل ومطلوبا من أجل جلب المزيد من الفوائض المالية للبنوك التي تعتبر في الأساس وسيطا بين أصحاب العجز وأصحاب الفائض، وإذا كانت الفائدة الثابتة تمنع المواطنين من وضع نقودهم في البنوك، فعلى البنوك إيجاد بدائل لهذه الآليات والبحث عن منتجات مختلفة من أجل جلب المزيد من الفوائض الموجودة خارج الدائرة البنكية، لاستعمالها في تنمية الاقتصاد.

إن هذا التوجّه تضمنه المصارف الإسلامية، التي استحدثت لتكييف المعاملات البنكية الربوية مع المبادئ الإسلامية وفق مبدأ المحاكاة، أو ابتكار ما يُغني عن الصيغ المتعارف عليها تقليديا، من خلال تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية على المعاملات المالية، وهذا ما جعلنا نختار موضوع المصارف الإسلامية لنناقشه ونوضح أهم معالمه النظرية، ومحاولة منح القارئ الكريم إطارا نظريا للمعاملات الإسلامية القائمة على مستوى المصارف الإسلامية، وتوضيح طرق تطبيقها في المصارف الاسلامية.

 

معدل الربح كبديل لسعر الفائدة

يسعى المستـثمر للحصول على الأموال اللازمة لتمويل مشاريعه الاستثمارية، وهذا لكونه من أصحاب العجز المالي، أي لا تكفي الأموال المتاحة لديه لتمويل مشروعه الاستثماري، والبحث عن الأموال يقتضي أن تُقدم للأفراد التحفيزات الكافية، فكيف يرضى أصحاب الفائض المالي بتقديم أموالهم لأصحاب العجز المالي؟ هي عملية تحتاج إلى تحفيز يسمح بتنفيذها بطريقة شرعية لا إشكال فيها.

إن النظام الرأسمالي يقدِّم للمدَّخرين سعر فائدة مقابل مدخراتهم، أي يحفز الأفراد على التنازل عن جزء من استهلاكهم الحالي لتمويل العمليات الاستثمارية، أملا في الحصول على عائد مستقبلا، وتزداد تلك المدخرات، لكن وفق التمويل الإسلامي يتم استخدام معدل الربح عوضا عن سعر الفائدة، لتحفيز أصحاب الفائض ولتفادي كل المخاطر المالية والاقتصادية التي قد تلحق بالنشاط الاقتصادي، نظرا لكون معدل الربح يسمح بتقسيم الأرباح المحققة فعلا، وبالتالي يستفيد الطرفان الشريكان في المشروع، بينما سعر الفائدة يستفيد منه المُقرض فقط، حتى وإن أدى ذلك إلى إفلاس المشاريع التي استفادت من القروض البنكية، وفي ذلك تأثير سلبي على النشاط الاقتصادي، خاصة إذا تعلق الأمر بإعلان إفلاس تلك المؤسسات وما يصحب ذلك من تسريح للعمال، فأسلوب المشاركة يعتمد على القابلية للربح والخسارة، فقد أثبتت الدراسات الاقتصادية أنه لا يمكن أن تكون نسبة نجاح المشروع كاملة، وإلا إنتفت صفة المخاطرة عن المشاريع الاقتصادية، وعليه نصل بطرفي المشاركة إلى شرط تكافؤ الفرص، بما يعطي دفعا قويا لتنفيذ المشروع بدقة عالية من الطرفين، فتزداد تبعا لذلك نسبة نجاح المشروع، وفي حالة الخسارة يتم توزيعها على المشتركين في المشروع بما يقلل من درجة تحمل المخاطر بالنسبة للفرد الواحد، وكلما تمّ توزيع الخسارة سمح ذلك بتقليل درجة تآكل رؤوس الأموال نتيجة الخسارة، هذا بخلاف ما يحدث مع القروض الاستثمارية، إذ في حالة خسارة المشروع ربما يختفي رأس المال كلية من دائرة النشاط الاقتصادي، ويؤدي ذلك إلى خسارة فرصة تنموية وتراكم الخسائر في رؤوس الأموال تتقلص معه فرص النمو والتنمية، وهو من أسس العمل المصرفي الإسلامي.

 

عن بنك السليكون فالي وسيغنتشر والنظام العالمي

تابع الجميع كيف تفجرت أزمة إنهيار بنك واد السيليكون فالي وما تبعها من انهيار لبنك سيغنتشر، والذي جعل الحديث حول قوة النظام الرأس مالي وآلياته يعود من جديد بعد آخر أزمة كبرى ألمّت بالبنوك وكانت في 2008، إذ عرفت آنذاك انهيار بنك ليمان براذرز الذي أسِّس في 1850 وصمد أمام أزمة الكساد الكبير في ،1929 ولكن أزمة الرهن العقاري عصفت به، وفي تلك المرحلة كان السبب الرئيسي للانهيار هو تراجع ثمن العقارات التي ورقت ديونها (أي تم بيع الديون وتداولها عديد المرات)، فبمجرد انهيار أسعار العقارات التي تعتبر الأصل الأول للعملية انهارت كل المنظومة الربوية كما يحدث مع أحجار الدومينو المتراصّة، وكان أداة إعادة الثقة للسوق رصد ما بين 500 إلى 700 مليار دولار من أجل دعم الشركات والمؤسسات الأمريكية المتعثرة.

وها نحن اليوم نعيش تبعات أزمات النظام الرأس المالي الذي يُعرف، كما يَعرف الجميع، بـ”نظام الأزمات”؛ أي أنه نظام يعمل على صناعة أزمات مالية ثم يفجّرها، لأنه إن لم يفجّرها طوعا ستنفجر فيه الفقاعة وتصبح حالة غير متحكم فيها، وهو ما يجعلنا نقول إن النظام الرأس مالي الربوي أصبح يستعمل كل الأدوات والآليات للبقاء لأطول مدة ممكنة، وهو ما جعل هذا النظام يقبل بأن تكون بنوك اسلامية تعمل في إطار النظام الرأس مالي وذلك ليحافظ على ديمومته واستمراريته كما سبق وأشرنا، وهو ما يجعلنا نقول إن المصارف الإسلامية وفق المنظومة العالمية الحالية ليست سوى حل مؤقت، لأنها قد تكون جزءا من الأزمة التي نعيشها إن هي لم تتحوّط بالشكل اللازم كونها تعمل في نظام ربوي صعب ومتشعِّب.

تبقى الإشارة إلى نقطة مهمة جدا قوامها أن بوادر ظهور نظام اقتصادي عالمي جديد أساسه مراجعة دور الدولار الذي كان ولا يزال قادرا على أن يطبع بالحجم الذي يريد وبالكمّ الذي يريد وفي الوقت الذي يريد، وهو ما يسمح للولايات المتحدة الامريكية بإنقاذ نظامها متى شاءت بآلية طبع النقود، لأن الدولار لن يبقى في أمريكا بل سيخرج إلى دول أخرى واقتصاديات أخرى بسرعة كبيرة، وهو ما يبقي التوازن دائما في الاقتصاد الأمريكي، وإن تغيرت معادلة الدولار سيتغير الاقتصاد العالمي وإلا كيف يمكن أن نفهم قدرة النظام الأمريكي على ترك 7 تليون دولار غير مؤمَّن عليها من إجمالي الودائع في البنوك والمقدرة بـ17 تليون دولار، وهو ما يعني أن الخطة التي سيقوم بها الفيدرالي الأمريكي لبث الطمأنية تقضي بجمع 7 تليون دولار للتأمين على الودائع غير المؤمَّن عليها وأن ثلث هذا المبلغ على الأقل يجب أن يتوفر، وهو ما جعل الفيدرالي يرفع نسب الفائدة إلى مستويات غير مسبوقة تجنُّبا لما يعرف بـ”لحظة مينسكي”.

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.