ما هي طبيعة “الإسلاموفوبيا” التي يواجهها مسلمو فرنسا؟

أنور الغربي

يعيش في فرنسا أكثر من 5 ملايين مسلم، حسب العديد من الدراسات بهذا الشأن، ما يجعل من الإسلام الديانة الثانية في البلاد، ولكن يبقى تمثيل المسلمين في أجهزة الدولة والحكومة والبرلمان والإعلام ضعيفاً جداً، وهذا يعود لعدة عوامل، أهمها هو انتشار الخوف الشديد من الإسلام أو “الإسلاموفوبيا” في فرنسا على صعيد واسع.

لقد أظهرت تغطية بطولة كأس العالم لكرة القدم، التي جرت في قطر، وما صاحبها من  مشاهد وتحليل من جانب وسائل الإعلام الفرنسية جوانب كانت مجهولة، ومنها التركيز المبالغ فيه على نقد تنظيم قطر لكأس العالم، والتعرض لمظاهر التدين في المجتمع، ومنها كثرة المساجد وصوت الأذان أو منع الكحول في الملاعب.

لكن ما استغربته من ردود فعل الفرنسيين الذين يعملون في المجال الإعلامي والرياضي، ما اتضح من أن الإسلاموفوبيا منتشرة  في عدة قطاعات، ومنها المجال السياسي أيضاً.

لقد صار التصدي لـ “الإسلاموفوبيا” في فرنسا أمراً عاجلاً وملحاً، ففي إحصائية رسمية صرح 42% من الفرنسيين المسلمين أنهم تعرضوا للإقصاء مرة واحدة على الأقل في حياتهم بسبب دينهم، وتصل هذه النسبة إلى 60% بالنسبة للفتيات والنساء المحجبات، كما أن مئات الشكاوى تصل إلى الجمعيات المناهضة للعنصرية، وتصل إلى المحاكم التي تؤكد أحياناً تضاعفاً خطيراً لـ”الإسلاموفوبيا”.

 

تزايد مظاهر الإسلاموفوبيا في فرنسا

إن تزايد الإسلاموفوبيا في فرنسا يترافق مع ازدياد حضور الكفاءات المسلمة في مواقع الاختصاص المهمة، فستجد المسلمين الفرنسيين موجودين في الطب والهندسة والتكنولوجيا والبحث العلمي، وأغلب هذه الكفاءات جاءت جاهزة للعطاء في فرنسا، لكنهم يتعرض للسلوك المعادي لهم ولدينهم، رغم أن الخزينة الفرنسية لم تدفع يورو واحداً لتعليمهم ولتكوينهم الباهظ في بلدانهم، كما أن الدولة الفرنسية جاءت بهم للضرورة والحاجة لمثل هذه الكفاءات، وهذا يؤكد أن ظاهرة الإسلاموفوبيا أصبحت تحتاج لمعالجة حقيقية.

في مارس/آذار 2021، قدّم تحالف من المنظمات الدولية وجماعات المجتمع المدني شكوى رسمية إلى رئيسة المفوضية الأوروبية، بشأن السياسات العدائية للحكومة الفرنسية تجاه مواطنيها المسلمين، علماً أن القوانين والمواثيق الدولية تجرم التعبير عن الكراهية، لأنها أولى خطوات العنصرية والإقصاء، والتنابذ بين المواطنين، ثم بين الشعوب، وما يتلوها من حروب ومآسٍ وصراعات.

في الخطاب الإسلاموفوبيا في فرنسا أنها ليست الخوف من الإسلام، بل هي التعبير الواضح عن الكراهية للإسلام والمسلمين، اعتماداً على صور نمطية، ومقاربات سطحية، يعمم فيها كل ما هو سيئ من الأفراد، على كل المسلمين وتضخيم ذلك إعلامياً وفي الخطاب الشعبوي.

كما يحاول العديد من الساسة والمنظرين الفرنسيين التخفي وراء حرية التعبير ووراء الحق في نقد الإسلام كغيره من الأديان والمعتقدات والأيديولوجيات، غير أن ما يعبرون عنه هو عبارة على نظرة دونية تترجم في شكل حملات تشويه وانتقاص وأحياناً استهزاء من المسلمين، مواطنين كانوا أو مهاجرين.

كما تجاوزت العديد من المواقف النقد، وصارت تمارس التجريح في أساس حرية المعتقد، كالصلاة أو الصوم أو بناء المساجد، وحرية التعبد واختيار شكل اللباس أو الأكل الذي يتماشى مع عقيدة المسلم.

كمثال على ذلك سنة 2012 ادعى أمين عام حزب “الاتحاد من أجل حركة شعبية ” واسمه “جان فرنسوا كوبي” أن أطفالاً فرنسيين في بعض الأحياء، يفتك من أيديهم خبز الشوكولاتة، بدعوى أن الأكل في رمضان ممنوع”، وصارت هذه الأكذوبة موضوع إهانة للمسلمين في وسائل التواصل الاجتماعي حينها.

في الغالب تبحث خطابات العنصرية والتحريض في فرنسا عن شماعات، فنجدها تستهدف وبشكل واضح وجلي المهاجرين والأقليات بالادعاء أن البطالة وغلاء المعيشة والمشاكل الاقتصادية أو الأمنية، سببها الأجانب وأبناء المهاجرين لأن الخطاب الشعبوي البسيط يمكن من استقطاب الناخبين في ظل أوضاع اقتصادية متدهورة تعيشها فرنسا.

 

دور المسلمين في بناء فرنسا ونهضتها

للتذكير، فإن فرنسا كانت قد استقدمت في الستينيات من القرن الماضي من خلال الوسائل التحفيزية الكثيرة والإغراءات عشرات الآلاف من المسلمين؛ حيث ساهموا بقوة في نماء الاقتصاد الفرنسي وإنشاء البنية التحتية، بالرغم من أن ظروفهم الحياتية كانت صعبة ولم يكن لديهم الوعي الكافي بحقوقهم التي كانت تُنتهك.

أما الأبناء فقد راكموا ثقافة المواطنة والحقوق والحريات وقيم العدالة والإخاء وتحصلوا على نصيب محترم من التعلم تؤهلهم للمطالبة بالعدالة، باعتبارهم وُلدوا في فرنسا وتعلموا في مدارسها واطلعوا على قوانينها، وتبين لهم بسرعة غياب المساواة بينهم، وأقرانهم الفرنسيين من غير الأصول العربية والإسلامية.

هذا الجيل الثاني بدأ يراكم التجارب عبر الاحتكاك بالواقع ووقوفه على التناقض الكبير بين ما تعلموه في المدارس والمعاهد والكليات الفرنسية والواقع السيئ الذي يعيشونه؛ حيث بدأت الاحتجاجات الفردية وأحياناً عبر جمعيات ونقابات وأحزاب صغيرة لوقف الانتهاكات العنصرية ضدهم.

 

الإسلاموفوبيا وأحزاب اليمين المتطرف في فرنسا

بداية من الثمانينيات اتخذت أحزاب اليمين المتطرف خطاباً معادياً للآخر لوسم ورفض “العربي” أو “المغاربي”، ولكن سرعان ما تغيرت المفردات لأن الكثير من الفرنسيين لم يتقبلوا رفض الآخر بسبب أصوله التي لا دخل للإنسان فيها، فتحول الرفض من “الأصل” إلى “الدين”؛ لأن الدين اختيار، وهو وإن كان جزءاً من الثقافة والهوية فللشخص الحرية في أن  يتخلى عنه إذا أراد الاندماج في المجتمع الفرنسي.

في بداية التسعينيات قد بدأت مع الجيل الثالث للمهاجرين المسلمين المطالب المتعلقة بالهوية كفرنسيين من أصول مسلمة، وأيضاً تزايد أعداد المسلمين الجدد، مما استوجب المطالبة بالتراخيص للمساجد، ومجازر اللحم الحلال كما بدأت عدد من الفتيات ترتدي الحجاب رغم العقبات التي كانت تضعها بعض المعاهد التي ترفض دخول الطالبات بالحجاب، وانطلقت معها المطالبة بالحق في الدراسة وحرية اللباس، ونصبت المنابر الإعلامية والسياسية  للحديث عن الهوية والإسلام.

لقد تحرر الخطاب المعادي للحجاب وانطلقت الاستفزازات والخطابات المحرضة والمهينة، القائلة بعدم نضج الفتاة المحجبة وغياب إرادتها والإكراه الذي تتعرض له، وسيطرة الرجل عليها في كل خياراتها الفكرية والحياتية، حتى في لباسها.

اتخذ اليمينيون المتشددون والعلمانيون المتطرفون في فرنسا من الإسلام والمسلمين الحجاب والمحجبات هدف العنصرية الجديد، وبدأ الخطاب العدائي والإقصائي؛ لكسب وافدين جدد يصوتون لليمين المتطرف عبر الخطاب الجديد.

مع تزايد الخلاف والضغط الاعلامي، في شهر مارس 2004 وقع إصدار قانون لمنع الرموز الدينية في الدراسة أو العمل لتلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية، ومنتسبي الوظيفة العمومية، ولكن أكد المشرع أن للمرأة المسلمة الحق في ارتداء ما تشاء خارج الوظيفة العمومية أو في المدرسة بالنسبة للفتيات.

تزايدت الانتهاكات وتزايدت معها الاحتجاجات والمقاومة والمطالبة بالحرية والعدالة للجميع، وفي السنوات الأخيرة رصدت مراكز الرصد والتوثيق العديد من الانتهاكات، ربما أشهرها تلك التي انتشرت كثيراً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، منها تلك السيدة المحجبة على شاطئ البحر، والتي حاصرتها شرطة البلدية وخيّرتها بين إما نزع لباس البحر المحتشم “البوركيني” أو مغادرة الشاطئ.

كما أثيرت حملة تشويه لمطالبة الشابة “منال” المحجبة، التي شاركت في برنامج الغناء الشهير “ذا فويس” الفرنسي، والتي لم تشفع لها موهبتها الفذة، وانفتاحها على الفن والغناء كدليل على اندماجها كفرنسية مسلمة، فمجرد كونها تلبس حجاباً خفيفاً، تعرضت لحملة تشويه وإقصاء دفعتها لترك البرنامج.

بعد حادثة الشابة منال في برنامج “ذا فويس” بأشهر، وفي مشهد عنصري آخر طالب أحد نواب اليمين المتطرف من رئيسة بلدية، طرد أم مسلمة محجبة، وطالب بطردها أمام طفلها وبسبب حجابها لما كانت عليها أن تحضر في زيارة تثقيفية مع مجموعة من التلاميذ.

بالرغم من أن القانون يسمح للمرأة المحجبة بأن تشارك كمتطوعة، ولا تعمل في الوظيفة العمومية، لم يحاسب النائب على هذا الاعتداء، والسلوك غير القانوني، بل أصبح شخصية مشهورة، تحضر المنابر الإعلامية لبث خطابه الإسلاموفوبي.

كانت الحوادث السابق ذكرها مناسبة أن فتحت المنصات الإعلامية للعنصريين الجدد، للهجوم على المسلمين، والمحجبات، وتصاعدت حملات الشحن وبث الكراهية ضدهم.

 

الإسلاموفوبيا والرئيس الفرنسي ماكرون

لقد تبين بوضوح خلال الانتخابات الفرنسية الأخيرة حجم الأجواء المشحونة وانتشار الإسلاموفوبيا في فرنسا؛ حيث وصل الأمر بالبعض لنعت المهاجرين والمسلمين بـ”المستعمرين الجدد”، الذين جاءت بهم قوانين الهجرة وحماية حقوق الإنسان، ليحلوا محل السكان الأصليين وتجاوز التطرف في الأقوال للاعتداء على مسجد “بايون”؛ حيث عمد أحد المرشحين السابقين لليمين المتطرف لحزب “الجبهة الوطنية” إلى محاولة حرق المسجد واطلاق الرصاص وجرح اثنين من رواد المسجد.

بعد يوم واحد من الاعتداء، وفي ظل أجواء إعلامية مشحونة صادق مجلس الشيوخ الفرنسي على قانون منع الأمهات المحجبات من المشاركة التطوعية في الأنشطة المدرسية مما رأى فيه كثيرون اعتداء على المفهوم الأصلي للعلمانية، والذي يعني حياد الدولة، واحترام الأديان جميعاً، والمساواة بين المواطنين.

خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة كان ملخص الشعار الأبرز للخطابات “لا صوت يعلو فوق صوت العنصرية،” في تصعيد غير مسبوق، وتنافس بين المرشحين على من يكون الأكثر عنصرية ضد المسلمين والمهاجرين بشكل عام، واستوى في هذا اليمين، واليمين المتطرف، حتى الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون انحرف يميناً؛ بحثاً عن مزيد من الأصوات.

يقول أحد المحللين للوضع “في فرنسا لا تتوقف حملة ضد المسلمين حتى تبدأ أخرى” جاء ذلك على خلفية حملة ضد بعض الأئمة بعد قرار أصدرته السلطات الفرنسية بطرد الإمام “حسن إكويسن” من الأراضي الفرنسية، وترحيله إلى بلاد أجداده المغرب، والذريعة هي تبني ما تعتبره الحكومة “خطاب كراهية”.

القرار هلل له وزير الداخلية، جيرالد دارمانان، واعتبره بداية لقرارات ترحيل قادمة ستمس كل من وصفهم بـ”أصحاب النشاطات والخطابات المحرّضة على الكراهية”.

في هذه الأثناء تعالت أصوات الرفض والاحتجاج، ونزل الآلاف من المواطنين والشخصيات الحقوقية والسياسية، والجمعيات، والنقابات المهني للشوارع من أجل إدانة انتهاكات حقوق مسلمي فرنسا ونشر الكراهية تجاههم في مناخ يذكر بالشائعات، وخطابات الكراهية، ضد يهود أوروبا، والتخويف من وجودهم، وما تلى ذلك من فظاعات ومحارق.

رفع المتظاهرون لافتات كتب عليها “نعم لنقد الديانة لا لكراهية المؤمن”، و”لنضع حداً للإسلاموفوبيا”، و”العيش المشترك ضرورة”، “الإسلاموفوبيا تقتل”، كما أطلقوا هتافات مثل “نحن جميعاً أبناء هذه الجمهورية كما أطلق بعض المتظاهرين هتاف تضامن مع النساء المحجبات”، جرت التحركات وسط كثير من الأعلام الفرنسية كرسالة واضحة للتعبير عن الانتماء.

قال المفكر وأستاذ العلوم السياسية فرنسوا بيرقا: “إن الديمقراطية الفرنسية في أزمة، ما لم تسمح بوجود الفرنسي المسلم، في المجال الرسمي والنخبوي والسياسي، فالديمقراطية والتنوع الحقيقي، للمحافظة على السلم الاجتماعي، هو قبول الآخر باختلافه”.

الواقع أن السياسيين والنخب الفرنسية المسيطرة على المشهد الإعلامي والثقافي، يحبون فقط الفرنسي المسلم الذي تخلى عن إسلامه، لذر الرماد في العيون، يلتجئ بعض الإعلام، والنخب السياسية إلى تمثيل المسلمين في الحضور الإعلامي والرسمي ببعض المسلمين الخالين من الدهون “لايت”، فيصدروا بعض الأسماء العربية للحديث عما يريده الفرنسي والمواطن المسلم.

قال المفكر الفرنسي فرانسوا بورغا، قبيل الحملة الرئاسية الفرنسية إن “الإسلاموفوبيا أصبح توجهاً للدولة وأصبح ظاهرة رسمية حكومية منذ انضم الرئيس ماكرون إلى خطاب اليمين المتشدد “، وأضاف أن “تغذية الإسلاموفوبيا في فرنسا جاءت نتيجة لقرار الرئيس ماكرون أوائل 2018 توجيه نظره إلى اليمين، ثم اليمين المتشدد”.

صدر بالتوازي مع الحملات، كتاب بعنوان “الإسلاموفوبيا: كيف تخترع النُّخَب الفرنسية المشكلة الإسلامية”، ومن أبرز الأطروحات التي يأتي بها المؤلّفان، والتي لا يتوقّفان عن إعطاء أمثلة وتحليلات حولها، قولهم إن طريقة التعاطي مع الإسلام والمسلمين في فرنسا تشكّل “الإجماع الوطني”، بحيث يتّفق الجميع، أو يكاد، على أن حضور الإسلام والمسلمين في فرنسا “يطرح مشكلةً”، ويتعرض الكتاب لـ”أسباب تصاعد النزعة العنصرية في المجتمع الفرنسي”.

 

ما الحل لمواجهة الإسلاموفوبيا؟

يؤكد كل العقلاء، والمفكرين والسياسيين المعتدلين، إلى أن الحل يكمن فقط في احترام حرية المعتقد وحرية اللباس للجميع، ولنا أمثلة عدة عن ثقافة التعايش والاحترام من ألمانيا وبريطانيا وسويسرا، ويكمن جزء أساسي من الحل في إعطاء الكلمة، لمسلمي فرنسا المعتدلين، والاستماع إلى مشاكلهم وإشراكهم في الحلول وفي البناء كمواطنين مكتملي المواطنة، دون وصاية أو استنقاص.

كما يجب إتاحة الفرص الحقيقية لمسلمي فرنسا ليتمكنوا من التعبير عن أنفسهم كمواطنين، لهم نفس الحقوق والحريات والحقوق والمؤهلات، التي تمكنهم من تقلد المناصب العليا في الدولة وتمثيل الشعب كله، بقطع النظر عن الأصول أو الدين أو لون البشرة أو غيرها من المعوقات من أجل بناء المواطن وترسيخ ثقافة المواطنة المبنية على الاحترام والتسامح والعدالة والإخاء والمساواة، وهي شعارات الدولة الفرنسية الجامعة.

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.