التعايش الديني والخوف من المصطلح

بدر العبري

درج العديد من المعاصرين على استخدام مصطلح التعايش كبديل عن مصطلح التسامح، الذي استخدم بصورة كبيرة في ظرفية زمنية نتيجة صراعات دينية بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا، فكان مصطلح التعايش مجردا من أي غايات مسبقة عدا تحقق العيش المشترك المنطلق من ماهية الإنسان الواحدة، والمبني على المساواة في المواطنة والعيش المشترك.

لهذا قد يسند التعايش إلى المعنى الواسع فيقال «التعايش الإنساني»، فهنا الأصل باعتبار الماهية الإنسانية، فتتقبل الآخر ولو اختلف عنك فكرا أو دينا أو مذهبا أو توجها، فلا بد أن تمايز بين ذات الإنسان في ضوء المساواة من حيث الذات، وبين العدل في الإجراء المرهون بالمساواة ذاتها من حيث الابتداء.

وقد يسند التعايش إلى المعنى الأخص، فيقال «التعايش السلمي» مسندا إلى السلم، إذا كان هناك صراع واضح بين الأطياف، وخصوصا في الصراعات السياسية، وقد يقال «التعايش المذهبي»، أو «التعايش الفكري»، أو «التعايش الوطني»، فجميعها أسندت إلى الأخص (المذهب والفكر والوطن)، حيث الغاية تحقق التعايش حول هذه المفاهيم الخصوصية.

ومن الإسناد إلى الأخص «التعايش الديني»، على اعتبار أن هناك أديانا متباينة في مجتمع أو دولة ما، أو باعتبار الإنسان ذاته وعالمه الأوسع، إلا أن هناك من يرفض مصطلح تعدد الأديان، ويرى الدين واحدا، وبالتالي يرفض عبارة «التعايش الديني»، ليس رفضا للتعايش بقدر ما هو رفض لمفهوم تعدد الأديان، وهناك من يبالغ ويرفض حتى مفهوم التعايش بينها بناء على مصطلحات الولاء والبراء، وتقسيم الناس ثلاثة، إما موحد مسلم، أو من أهل الكتاب وعليهم الدخول في الإسلام أو الجزية، أو مشرك ليس لهم خيار إلا الدخول في الإسلام إذا بلغتهم الحجة، خصوصا نتيجة حرب، واستثنوا قريشا فلا سبي فيهم عند العديد، وقد ناقشتُ هذا الأمر بإسهاب في كتابي «فقه التطرف».

إشكالية رفض عبارة «التعايش الديني» في العقل الجمعي التقليدي يعود إلى ثلاث إشكاليات: الأول مفهوم الدين، والثاني فلسفة تعدد الأديان، والثالث إسقاط نصوص وفق ظاهرها وجعل ظاهرها مطلقا قطعيا.

وأما من حيث مفهوم الدين فنجده واسعا عند العرب قديما وحديثا من حيث اللغة، ففي «مختار الصحاح» مثلا لمحمد بن أبي بكر الرازي (ت 666هـ) يضع الدين بكسر الدال وفق معنيين: الأول «العادة والشأن»، والثاني «الجزاء والمكافأة»، لهذا الأول عام، فتعدد الأديان يدخل في العادة والشأن، وأما تعليق الدين بالجزاء والمكافأة فمتعلق بالله وحده، وتعلقه بالمعنى الثاني لا يرفع المعنى الأول كما سيأتي، ولهذا جمع الرازي الدين على أديان، وفي «المعجم الوسيط» لأحمد حسن الزيات (ت 1968م) وآخرين، فيرى الدين «الديانة، واسم لجميع ما يعبد به الله»، ويدخل فيه «الملة والإسلام والاعتقاد» وغيرها، «والديانة ما يتدين به الإنسان»، فهو عام، ولا يتعارض مع مفهوم «تعدد الأديان»، ومن المعنى اللغوي الواسع للدين انطلق ابن عاشور (ت 1393هـ) في «التحرير والتنوير» في عمومية مصطلح الدين ذاته، فيرى «الدين العقيدة والملة، وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها، فلذلك سمي دِينا لأن أصل معنى الدين المعاملة والجزاء»، ويقول طنطاوي (ت 1431هـ) في الوسيط: «والدين يطلق بمعنى العقيدة التي يعتقدها الإِنسان ويدين بها، وبمعنى الملة التي تجرى أقواله وأفعاله على مقتضاها، وبمعنى الحساب والجزاء، ومنه قولهم: دنت فلانا بما صنع، أي: جازيته على صنيعه».

ونجد في القرآن الكريم مصداقين مثلا لسعة اللغة في مصطلح الدين، المصداق الأول قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَهِ إِلَا الْحَقَ} «النساء: 171»، وأهل الكتاب هنا اليهود والنصارى، وسمى ما عليه هم دينا، ولم أجد في التفاسير أي تأويل متكلف في هذا، فالطبري (ت 310هـ) في «جامع البيان» يقول: «{لا تَغْلُوا فِـي دِيِنِكُمْ} … لا تـجاوزوا الـحق فـي دينكم فتفرِطوا فـيه»، وعلى هذا درج المتأخرون إلى اليوم.

والمصداق الثاني قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} «الكافرون: 6»، وهنا في الجزأين تقديم للمسند على المسند إليه، في الجملة الاسمية يراد به التخصيص، فالدين هو المبتدأ المؤخر الذي هو المسند إليه، وأثبتت الآية سعته لغة، فللمشركين دينهم، وللرسول «عليه الصلاة والسلام» دينه، وفي هذا يقول الطبري في «جامع البيان»: «لكم دينكم فلا تتركونه أبدا؛ لأنه قد خُتِمَ عليكم، وقُضِي أن لا تنفكوا عنه، وأنكم تموتون عليه، ولي دينِ الذي أنا عليه، لا أتركه أبدا؛ لأنه قد مَضى في سابق علم الله أني لا أنتقل عنه إلى غيره»، ويقول الطبري (ت 671هـ) في «جامع أحكام القرآن»: «وسمى دينهم دينا لأنهم اعتقدوه وَتَولَوه»، وأما تعليق بعضهم بالجزاء فلا يتعارض، أي جزاء ما عليه من دين، وفي هذا يقول أطفيش (ت 1334هـ) في الهميان: «لكم دينكم تجازون به، ولي ديني أجازي به».

وإذا جئنا إلى فلسفة تعدد الأديان فهي من المباحث المعاصرة التي أرجعها علي رباني في الدراسات الغربية إلى ثلاث نظريات: التعددية والانحصارية والشمولية، وارتبطت هذه بالمباحث المللية أو الموسوعية قديما كالملل والنحل لأبي الفتح الشهرستاني (ت 548هـ)، أو موسوعات الأديان والمذاهب اللاهوتية والفكرية والاجتماعية المعاصرة، وهي كثيرة جدا، أو الكتب التخصصية المرتبطة بالآثار، أو بالاجتماع البشري، أو بفلسفة اللاهوت المقارن، وهي كثيرة أيضا، لهذا مصطلح الدين اليوم يطلق بمفهومه الواسع، ويرى تولستوي (ت 1910م) في كتابه «في الدين والعقل والفلسفة» أن الدين له ثلاثة معان، الأول الدين المرتبط بكتاب مقدس، «هذا المعنى يوصف به الدين من قبل المؤمنين بإحدى الديانات الموجودة، الذين يعتبرون ديانتهم الوحيدة الحقيقية»، والثاني «مرتبط بإطار الخرافات تنتج عنها عبادات خرافية»، والثالث «عبارة عن قوانين وتشريعات شديدة الأهمية، سنت من قبل بعض الحكماء للجموع الهمجية، كي تعمل على طمأنتهم وقمع شهواتهم البهيمية»، فنرى العديد من الدراسات اليوم تجاوزت الدراسات اللاهوتية أو الكلامية وفق الحقيقة الواحدة أو المطلقة، إلى الدراسات التأريخية والأثرية والدراسات المقارنة والفلسفية وغيرها، لهذا سيتسع مفهوم الدين ذاته، كما أن لتقارب الواقع المعاصر طبيعي أن تطرح التعددية الدينية في ضوء الانغلاق الديني، كما طرح مفهوم حوار الأديان كبديل عن صراع الأديان مثلا.

لهذا نأتي إلى الإشكالية الثالثة وهي إسقاط نصوص وفق ظاهرها وجعل ظاهرها مطلقا قطعيا، فاليوم لا تستطيع أن تتحدث عن التعايش الديني أو حول التعددية الدينية إلا ويأتيك أحدهم معترضا «الدين واحد فقط»، أو «هذه شرائع وليست أديانا»، أو «الدين عند الله الإسلام»، والإشكالية لما تكون هذه الاعتراضات المطلقة ممن يدركون سعة ذلك، ويطلقون عمويتها الضبابية في العقل الجمعي، فيذكر مثلا يوسف القرضاوي (ت 2022م) في موقعه على الشبكة العالمية حيث يقول: «أنكرتُ ما ذكره أحد العلماء في مؤتمر حضره عدد كبير من المدعويين، كان الحديث فيه عن حوار الأديان، والتقريب بين أهلها… ولكن هذا العالم قام وقال بصراحة: لا يوجد هناك دين إلا دين واحد، وهو الإسلام، وهو الذي قال القرآن فيه: {إِنَ الدِينَ عِنْدَ اللَهِ الْإِسْلامُ} «آل عمران:19»، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} «آل عمران:85»، حتى ما يُسَمَى (الأديان الكتابية) لا يُعْتَد بها، ولا تُعْد دينا، بعد أن حرفها أهلها، وجاء الإسلام فنسخها، وقد ألزمني الواجب أن أرد على هذا الكلام الذي ينسف كل ما قيل في المؤتمر، بل جهود الحوار والتقارب بين الأديان والحضارات، وقلتُ فيما قلتُ: إن هذا الكلام يخالف صراحة ما جاء به القرآن، فالقرآن يعد أن هناك أديانا أخرى غير الإسلام، وإن كنا نعدها أديانا باطلة، ولكنها أديان يدين بها أصحابها، والآية التي استشهد بها المتحدث ترد عليه، وهي قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينا…} الآية، فقد سماه الله دينا».

وبطبيعة الحال لا يمكن في مقالة سريعة كهذه تتبع هذه الآيات، بيد أنه لا يمكن قراءتها بعيدا عن سياقاتها، وعن سعة لغة القرآن ذاته، فمصطلح الدين لا يخرج عن سعة اللغة من الابتداء كما أسلفنا، ومن حيث الحكم الكلي أو الجزئي المتعلق بالله وحده، أو بالدراسات اللاهوتية توسعا، أو من حيث الشرعة والمنهاج المبنية على التعددية، والمرتبطة بالأديان، وبها تتشكل الأديان وفق الاجتماع البشري، وتطور الاجتهاد الإنساني، لهذا «التعايش الديني» لا يعني الانصهار الديني، ولا يعني الحكم اللاهوتي المسبق، وإنما يعني تحقق العيش المشترك من حيث المساواة والعدل على المستوى الشمولي في العالم، أو على مستوى القومية الواحدة، أو الدولة القطرية.

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.