حين يفشل الغرب في الامتحان الأخلاقي لحماية المقدسات المسيحية بفلسطين

محمود الحنفي

لا يمر عام إلا ويتم الاعتداء فيه على المقدسات المسيحية وعلى الرموز الدينية المسيحية، وذلك في إطار خطط حكومية متواصلة. ولعل تهويد مدينة القدس يستهدف إزالة أي وجود للمقدسات الإسلامية أو المسيحية. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: لماذا لم يتخذ الغرب أية إجراءات قوية لمنع الاعتداء المنهجي على المقدسات المسيحية في فلسطين؟ ولماذا يفشل الغرب إلى هذا الحد في هذا الامتحان الأخلاقي؟

 

عقود من الاعتداء على المقدسات المسيحية

تعرضت المقدسات المسيحية، على مدار عقود طويلة، لاعتداءات إسرائيلية رسمية، أو من قبل متطرفين يهود، حيث دُمرت وصودرت بعض العقارات والأراضي الوقفية، وجرت محاولات إحراق كنائس. وفي ندوة حول القدس، عُقدت في عمان عام 1993، ذكر قسطنطين قرمش، الرئيس الروحي للروم الأرثوذكس في القدس أنه “في عام 1922 كان في فلسطين 196 ديراً وكنيسة، لم يبق منها في عام 1993 إلا 48 كنيسة و47 ديراً.

وهناك محاولات مستمرة للاستيلاء على الأوقاف المسيحية، وخصوصاً أملاك الكنيسة الأرثوذكسية في البلدة القديمة. وتساهم المحاكم الإسرائيلية بشكل كبير في هذا الإطار، حيث إنها تثبت بشكل سريع ملكية الأوقاف المسيحية للشركات الاستيطانية، مع الإشارة إلى أن بلدية الاحتلال، بالتوافق مع الشركات الاستيطانية، طوّرت مخططاً شبه نهائي لبدء أعمال تهويد ساحة عمر على سبيل المثال، ولن يكون من المفاجئ أيضاً أن يُكشف عن صفقات تسريب أملاكٍ جديدة صدّق عليها البطريك ثيوفيلوس والمجمع المقدس خلال الفترة السابقة.

وفي ما يأتي سنعرض بنحو سريع الاعتداءات الإسرائيلية بحق رجال الدين أو المقدسات المسيحية في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال سنوات الاحتلال:

 

أ- الكنائس تتعرض للهدم والمصادرة والسرقة: هدمت السلطات الإسرائيلية عدداً من الكنائس، في العديد من القرى والمدن الفلسطينية التي دُمرت في عام 1948، فور خروج أهلها منها، مثل كنيسة البصة وكنيسة الشجرة. وفي 23 تموز/ يوليو 1992 هدم الإسرائيليون كنيسة القديسة بيلاجيه في جبل الزيتون، ودمروا بنايات دير شعار والكنيسة التي في داخله، على طريق بيت لحم ­­­الخليل.

وقد صادرت السلطات الإسرائيلية العديد من الكنائس والأراضي التابعة لها، مثل كنيسة المنصورة وكنيسة إقرت وأراضي كنيسة البصة المهدومة. كذلك استولت السلطات على كنيسة الأرثوذكس في حيفا ومنعت إقامة الصلاة فيها لثلاث سنوات، وبعد إعادتها إلى المسيحيين في وقت لاحق، أخذ المتطرفون اليهود بإلقاء القاذورات على رؤوس المصلين، كما حدث في القداس الاحتفالي الذي أقيم برعاية المطران أسيدوروس مطران الناصرة، في عام 1951.

وصادرت السلطات الإسرائيلية الكنيسة المسكوبية في الناصرة، وفي القدس، صودرت أراضٍ تابعة للكنيسة الروسية، وقد بُني عليها مستشفى هداسا في عين كارم. وفي عام 1948 صادرت الحكومة الإسرائيلية عقارات وأملاكاً للمجلس الملكي الأرثوذكسي في حيفا، وبعد محاكمات تبين أنها تعود إلى وقفيات الكنيسة، ولكن الحكومة الإسرائيلية أجّرتها ليهود بأثمان زهيدة. وقد حولت إدارة التنظيم الإسرائيلية بعض وقفيات الكنيسة الأرثوذكسية في مدينة القدس إلى مناطق خضراء يمنع البناء فيها، وفي عام 1948 صودرت 1000 دونم تابعة لكنيسة دبورية.

كذلك تعرضت العديد من الكنائس للسرقة من قبل عصابات إسرائيلية؛ ففي عام 1969 سرقت عصابة يهودية أيقونة العذراء مريم وتاجها الذهبي من كنيسة القيامة في مدينة القدس. وفي عام 1978 سُرق الإنجيل المذهَّب مع بعض الصلبان النحاسية المذهبة، والأيقونات الثمينة، والأواني المقدسة من كنيسة الكاثدرائية الروسية في القدس. وكانت مجموعة يهودية قد اقتحمت في عام 1979 الكنيسة الروسية في يافا، وسرقت العديد من موجوداتها. وفي عام 1984 جرى تكسير أبواب ونوافذ الكنيسة الروسية في مدينة طبريا ونُهبت محتوياتها.

ولم تنجُ المقابر المسيحية من الاعتداءات الإسرائيلية؛ ففي عام 1948 قامت الجرافات الإسرائيلية بحراثة مقابر المسيحيين وتحويلها إلى حقول وبيارات، مثل مقابر سيرين، معلول، البصة، ومقبرة المنصورة التي حُوِّلت إلى مكب للنفايات.

كذلك تعرضت بعض الكنائس لعمليات حرق متعمدة؛ فقد أحرقت عصابة يهودية الكنيسة المعمدانية في مدينة القدس، بما فيها مكتبتها، وذلك في يوم 8/11/ تشرين الثاني/ نوفمبر 1982. وفي عام 1987 اعتدت مجموعة من أنصار الحاخام المتطرف مئير كهانا على الكنيسة الأسقفية الإنجيلية في مدينة عكا وأحرقوا محتوياتها وأثاثها، ومن ضمنها الكتاب المقدس، وكتبوا على جدرانها “كهانا ملك اليهود”.

وفي يوم 19 أيار/ مايو 1995، أضرم متطرف يهودي النار بعد سكب البنزين داخل كنيسة الجثمانية في القدس، وعندما اعترضه كاهن الكنيسة رشَّـه أيضاً بالبنزين محاولاً إحراقه. وفي يوم 24 أيار/ مايو 1995 أطلق متطرف يهودي النار داخل كنيسة القديس أنطون في يافا.

إضافة إلى ذلك، يقوم المتطرفون اليهود بممارسات غير أخلاقية كثيرة بحق الأماكن المقدسة المسيحية. فعلى سبيل المثال، قامت مجموعة من اليهود المتطرفين في عام 1987 بالتبوّل والتبرّز في مواضع كثيرة داخل دير الصليب في القدس، الأمر الذي أدى إلى إغلاقه تسعة أشهر أمام الزوار اليهود احتجاجاً على هذه الإهانات.

 

ب- اعتداءات على رجال دين مسيحيين: قتل راهبان أرثوذكسيان في 1948 في القدس على أيدي عصابات يهودية، وقُتل أيضاً طالب لاهوتي أرثوذكسي في دير القطمون في القدس على أيدي يهود. وفي عام 1979 قامت مجموعات يهودية بتغطية جدران ومحالّ بيع الكتب والمباني التاريخية المسيحية برسومات الصليب المعقوف، وشعارات مثل: “أيها المبشّرون الخنازير، عودوا إلى بلادكم”. كذلك تلقّى رجال الدين المسيحيون رسائل تهديد، وقام بعض المتطرفين اليهود بالبصق عليهم وشتمهم في الشوارع. وفي عام 1979 قُتل الأرشمندريت فيلومينوس في الدير الأرثوذكسي في مدينة نابلس على أيدي يهود. وأحرق يهود متطرفون في عام 1980 مئات من نسخ العهد الجديد، في احتفال علني، برعاية جمعية يهودية تدعى ياد لاخيم (يد للأخوة).

وفي عام 1983 قتلت راهبتان روسيتان في عين كارم بالقدس. وتعرض عدد من رجال الدين المسيحي للنفي خارج البلاد، وكان أبرزهم المطران إيلاريون كابوتشي، واعتُقل عدد آخر منهم، وتعرضوا لأنواع مختلفة من التعذيب والإهانات.

وفي يوم 19 الأول/ ديسمبر 1989، أطلق جنود إسرائيليون النار على الشباب المحتفلين بعيد القديس نقولا، في كنيسة بيت جالا، ما أدى إلى إصابة عدد منهم بجراح. وفي نهاية عام 1990 أطلق جنود إسرائيليون قنابل الغاز داخل كنيسة بيت جالا، في احتفالات سبت النور، الأمر الذي أدى إلى حالات اختناق عديدة وسط المصلين.

 

ج- التدخل في شؤون الكنيسة الداخلية: رغم الاتفاق الدولي الموقَّع مع الفاتيكان، الذي تعهدت فيه إسرائيل الحفاظ على حرية العبادة في الكنيسة، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، إلا أن سلطات الاحتلال تدخلت في الأمور الداخلية للكنيسة، مثل فرض تعيين رئيس للكنيسة أو وضع برامج الاحتفالات الخاصة بها. فمنذ قيام دولة الاحتلال، عمدت إلى تعيين رؤساء للكنيسة من المقربين إليها. وعلى مدى العقود الخمسة الماضية، قاومت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تعيين رئيس للكنيسة تكون لديه ميول قومية عربية أو متعاطف مع القضية الفلسطينية.

وفرضت السلطات الإسرائيلية إجراءات منذ عام 1967، أعطت بموجبها حق حراسة الكنائس المسيحية للشرطة الإسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى سرقات عديدة ومحاولات إحراق للكنائس. ومثل هذه الحوادث لم تكن موجودة في الفترات السابقة.

على مدار عقود، عرقلت سلطات الاحتلال دخول المسيحيين إلى مدينة القدس وإقامة شعائرهم الدينية في كنائسها بحرية، والمشاركة في الاحتفالات الدينية، وخاصة احتفالات عيد الميلاد. فالمسيرة الدينية تنطلق من القدس إلى بيت لحم تحت حراب الاحتلال. وفي عيد العذراء، الذي يقام سنوياً، يحتفل المسيحيون على مدار أسبوعين، بمشاركة وفود تأتي إلى القدس، سيراً على الأقدام وفاءً بنذورهم إلى مقام العذراء (كنيسة الجثمانية)، لكن الإجراءات الإسرائيلية تمنع المسيحيين المقيمين في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة من المشاركة في هذه الاحتفالات، الأمر الذي يُعَدّ انتهاكاً لأبسط حقوق الإنسان في ممارسة شعائره الدينية.

ويقول رئيس الأساقفة الكاثوليك اللاتين بييرباتيستا بيتسابالا إن الكنائس في إسرائيل تفتقر إلى مكانة واضحة في النظام القانوني الإسرائيلي. واشتكى بالقول: “ليس لدينا شخص يمكن الاتصال به”.

 

الفشل في الامتحان الأخلاقي

وافقت الدول الغربية على قيام دولة إسرائيل منذ اللحظة الأولى لقيامها، لا بل هي من ساهمت بفعالية بقيامها. وهي تعتبر أن دولة إسرائيل تشكل قاعدة غربية متقدمة في منطقة الشرق الأوسط، وأن دعم هذه الدولة بكل الأشكال المناسبة يحقق مصالح الغرب دون شك. والغرب يقيم علاقاته مع دولة الاحتلال استنادا إلى منظومة المصالح وليس القيم أو الأخلاق، لذلك لا يأبه الغرب كثيرا بانتهاكات إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، ولا يتخذ أية إجراءات مناسبة ممكن أن تشكل رادعا للاحتلال للتوقف عن ارتكاب المزيد من الجرائم، بما فيها الجرائم ضد المقدسات المسيحية.

يفشل الغرب مرة أخرى في الامتحان الأخلاقي حين يغض الطرف عن الاعتداءات المنهجية ضد المقدسات والرموز الدينية المسحية.

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.