هل ستقود العلمانية الغربية المنفلتة للقضاء على القيم المسيحية؟

هل يمكن للسلطة التشريعية في دولة ما أن تجبر مؤسسة بعينها، لا سيما إن كانت سلطة روحية دينية على اتباع مسار بعينه تجاه قضية حساسة مثار جدل، تحت ذريعة حرية الرأي التي تتسق مع التوجهات العلمانية، وبخاصة جزئية الفصل بين مؤسسات الدولة والجماعة الدينية القائمة في البلاد؟

مثار التساؤل المتقدم هو تصريحات رئيس أساقفة الكنيسة الإنجليكانية جاستن ويلبي، والتي أشار فيها إلى أنه تعرض للتهديد لفرض زواج المثليين على كنيسته التي تعد القيادة الروحية للبلاد.

ما الذي جرت به المقادير أخيراً؟ ولماذا هذا الإصرار الذي يقود إلى تعميق العلمانية ذات الأنوار التي تعمي، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي الشهير ريجيس دوبريه؟

أما علامة الاستفهام اللصيقة بالمشهد المتقدم فتدور حول الأيادي الخفية الساعية إلى تثوير المشهد الدولي بين التنوير الجاف والراديكالات المتطرفة، وكأن القضية أمر واجب الوجود، وضعت أساساته “ربات الأقدار” في جبال الأولمب كما في الأساطير الإغريقية القديمة، أو “قدر منقوش على حجر” كما يقول فلاسفة التنوير الفرنسي.

في أبريل (نيسان) من عام 2014 كان جاستن ويلبي يحذر من موافقة كنيسته، التي لا ترتبط بصلات روحية أو إدارية بكنيسة روما، أي الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، على إقرار زواج المثليين.

في ذلك التوقيت، وقبل نحو ثماني سنوات، كان تصريح ويلبي يستهدف حماية المسيحيين في أفريقيا، هناك حيث وجود متميز لأتباع كنيسته، والذين باتوا يلقون عنفاً قاتلاً جراء الربط بين المسيحية والسماح بالمثلية الجنسية، وقد وقف ذات مرة باكياً أمام مقبرة جماعية في جنوب السودان دفن فيها نحو 369 شخصاً قتلوا في أحداث عنف تتعلق بكراهية المثليين.

في ذلك العام بات زواج المثليين قانونياً في إنجلترا وويلز، لكنه لم يلقَ تأييداً من الكنيسة الإنجليكانية الرسمية في البلاد.

جاستن ويلبي، وكما صرح بذلك في أوائل أغسطس (آب) 2022، يقطع بأن المثلية الجنسية لا تتوافق وتعاليم الكتاب المقدس، كما كان يؤكد تمسكه بإعلان عام 1998 الذي ينص على أن المثلية الجنسية لا تتوافق وتعاليم الكتاب المقدس.

هل تعرض الرجل لضغوط وتهديدات تجعله يغير رأيه، وتحت ذرائع من القول بأنها حرية رأي، وإن كان ذلك قد حدث بالفعل فما دلالة الأمر؟

في منتصف الشهر الجاري أماط ويلبي اللثام عما حدث، فقد صرح خلال اجتماع المجلس الاستشاري الإنجليكاني العالمي بأن كثيرين من أعضاء السينودس (المجلس التشريعي لكنيسة إنجلترا) العام تجاهلوا مخاوفه في شأن الإصلاحات الأخيرة، أي موافقة السينودس العام على اقتراح للسماح بمباركة الأزواج من الجنس نفسه في الشراكات المدنية في وقت سابق من شهر فبراير (شباط) الجاري.

أما المثير والخطير، الذي يقودنا إلى عمق الحديث عن أزمة العلمانية الغربية في حاضرات أيامنا، فهو اعترافه بأن رفضه الإقرار التام والكامل بزواج المثليين أدى إلى استدعائه مرتين إلى البرلمان، وتهديده باتخاذ إجراء برلماني لفرض زواج المثليين علناً، وهو ما يسمى في إنجلترا بالزواج المتساوي.

استنتج ويلبي من هذه العلمانية الظلامية ما يلي والكلمات له بالحرف “تم القضاء تقريباً على القيم المسيحية المتمثلة في المسؤولية المجتمعية والمتبادلة لصالح الفردية”. واعتبر أنه “في المملكة المتحدة وفي أجزاء كثيرة من أوروبا لا ينتمي غالبية الناس الآن إلى أي دين على الإطلاق. إنهم ليسوا مسيحيين وليسوا مسلمين وليسوا وثنيين وليسوا يهوداً وليسوا هندوساً. إنهم لا ينتمون”.

يفتح التصريح السابق المسار للبحث عن تلك الأصولية العلمانية المتطرفة في الغرب، والتي باتت تجبر أصحاب القناعات الدوغمائية على تغيير ما يعتقدون فيه ويؤمنون به، وعن أي مصير ينتظر تلك الحواضن الفكرية المتطرفة، التي تعد من دون تهوين أو تهويل المكافئ الموضوعي للأصوليات العنيفة المتطرفة في الشرق.

 

الغرب وإغراق اليسار العلماني

ما الذي يعنيه هذا الموقف الحكومي الرسمي المعضد لقضية المثلية، حتى وإن قاد إلى شمولية فكرية ضد أتباع رأي أو معتقد إيماني خاص آخر؟

تبدو القصة وكأنها ديكتاتورية مقنعة، لا سيما حين تذهب دوائر غربية بعينها في طريق أقصى اليسار، وهذا ما يتوقف معه دوبريه في مؤلفه “الأنوار التي تعمي”.

بالغوص في عمق رؤية هذا المفكر والفيلسوف الفرنسي، الذي دفع سنوات من حياته سجيناً ثمناً لأفكاره، يمكن للمرء أن يتفهم أبعاد أزمة جاستن ويلبي، وكثيرين من الذين يمضون في دربه.

ظواهر اجتماعية جديدة عدة تدل بمجملها على نوع من استقالة الذكاء، وتؤدي إلى تزييف وتضليل كبير ضد أفكار عصر التنوير، وإن باسم هذه الأفكار تحديداً.

ما يدينه دوبريه في كتابه هذا ليس الأنوار في حد ذاتها، فهي شيء محبوب ومرغوب، وإنما صورة القدسية التي تحوم حول أفكار بعينها، ومنها الإصرار على إجبار العالم برمته على قبول أفكار المثلية، وجعلها شرائع ونواميس لا تقبل الاختلاف من حولها، ومن هنا تتحول الأنوار التي تضيء الطرقات إلى أحجار ظلامية متكلسة بمرور الزمن.

تبدو أوروبا في معركة حامية الوطيس بين فولتير وروسو، ذلك أن الأخير هو صاحب دعوة للتنوير العميق، بينما الأول أي فولتير هو صاحب المقولة الممجوجة عن “خنق آخر سياسي بأمعاء آخر رجل دين”، ولهذا لم يكن غريباً أن يطلق على أتباعه اسم “الفولتيريين ضيقي الأفق”، والويل كل الويل إن كان هؤلاء أصحاب سلطة مدنية.

لم يكن فولتير وحده في واقع الحال أحد الأسباب التراثية التي قادت إلى المشهد الغربي الحالي، لا سيما أن عند الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط بدوره ميولاً لهذا الاتجاه الشمولي، ومن غير أدنى خوف من استخدام تلك الكلمة شديدة الوقع على النفس.

تحدث كانط ذات مرة قائلاً “عصرنا هو عصر النقد الذاتي، الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء، بما فيه بعض العقائد الدينية ذاتها”، وفات كانط جواب عن سؤال: هل العقل البشري مطلق أم نسبي، محدود أم سابح في اللانهائيات؟

 

العلمانيات الجافة والصراعات المجتمعية

يقودنا التساؤل التالي إلى ما يمكن أن تقود إليه العلمانيات الجافة، كما الحال مع تطلعات البرلمان البريطاني، وهل يمكن أن تعد حجر زاوية في الصراعات الأهلية القائمة والمقبلة، وما أكثر هذه وتلك، لا سيما في ظل أحادية الرأي والتوجه الذهني الواحد، مع صحوة القوميات وأنانية الشوفينيات، ناهيك بتصاعد الحركات العنصرية التي ذاقت أوروبا من جرائها الويلات كالنازية والفاشية.

باختصار غير مخل صوت أساقفة الكنيسة الإنجليكانية بالإجماع على رفض زواج المثليين نهائياً، وهو موقف يتسق والعقيدة المسيحية التي تعتبر الأمر من صميم الخطايا الكبيرة أو المميتة.

هذا الموقف أدى، وسيؤدي حكماً، إلى مزيد من التحشيد ضد الأسقف جاستن ويلبي، وجماعته التي تقطع بأنه منذ البدء خلق الله سبحانه وتعالى البشر ذكراً وأنثى، ولم يخلط جنساً ثالثاً بينهما.

المثير والخطير في المشهد البريطاني هو أن بيني موردانت رئيسة البرلمان البريطاني هي من تقود حملة شعواء على الكنيسة الإنجليكانية، بسبب رفض الأخيرة زواج المثليين بطريقة رسمية.

والثابت أن هناك من تلاعب بالعقول في هذه الأزمة، ليعزز من الانشقاق المجتمعي بحجة المحافظة على الحقوق الشخصية للفرد، فعلى سبيل المثال تقول موردانت “إن رفض الكنيسة هذا الزواج يجعل المثليين والمتحولين جنسياً يشعرون كأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وهو الأمر الذي نرفضه تماماً”.

هل ما يحدث في الجانب الآخر من الأطلسي يلقي بظلاله على أوروبا؟

ربما يكون ذلك كذلك بالفعل، فقد وافق الكونغرس الأميركي أخيراً على قانون جديد يقضي بحماية زواج المثليين والمتحولين جنسياً، كما وافق مجلس النواب الأميركي على القانون وتم رفعه للرئيس جو بايدن كي يوقع عليه.

 

الإنجليكان مباركة لا موافقة

يمكن القطع بأن الصفقة التي جرت بين البرلمان البريطاني والكنيسة الإنجليكانية إنما جاءت تحت ضغوط الجهة الأولى، وربما ستكشف الأيام المقبلة عن ماورائيات المشهد، وما تم الهمس به في مخادع النواب البريطانيين سينادى به من فوق سطوح الإعلام البريطاني بخاصة والأوروبي عامة.

انقسم سينودس الكنيسة الإنجليكانية على نفسه تجاه الموافقة على مشهد زواج المثليين، وبعد أكثر من ثماني ساعات من النقاشات صوت 250 من أعضاء المجمع العام لصالح منح الكنيسة مباركتها زواج الأشخاص من الجنس نفسه، مقابل معارضة 181 من الأعضاء.

 

 ماذا يعني ذلك القرار؟

باختصار غير مخل سيكون بإمكان الأزواج الشباب الحضور إلى الكنائس الإنجليكانية، من أجل الحصول على المباركة التي تتمثل في قراءة بعض الصلوات من أجلهم، لكن ليس لعقد طقوس الزواج الدينية داخل الكنيسة، والتي ترتبط بالزواج الطبيعي الذي شرعه الله بين ذكر وأنثى.

ما الذي يحدث على وجه التحديد، وهل هذه تبعات ونتاج لعلمانية جنبت الروحانيات وأزاحت الإيمانيات وأخلت الطريق لكل ما هو مادي متوحش على حساب كل ما روحاني متقدم؟

الذين يتابعون الشأن الكنسي البريطاني يتخوفون من أن يؤدي هذا القرار إلى سلسلة من التبعات المخيفة، فاليوم وتحت التهديدات التي تعرض لها جاستن ويلبي وباعترافه شخصياً، وقد يكون الأمر قد انسحب على عدد مشابه من سينودس كنيسته، أي الأساقفة الإنجليكان، تحدث تلك المباركة، لكن من غير إقرار رسمي بالزواج كسر من أسرار الكنيسة.

غير أن هناك من يرى أن هذا المشهد هو خطوة انتقالية، يراد بها تهيئة الأذهان خلال عدد معين من السنوات للموافقة النهائية من الكنيسة الإنجليكانية على زواج الشواذ، وساعتها ربما يكون المشهد أكثر خطورة… لماذا؟

حين ننظر إلى نحو 181 صوتاً من الأصوات الرافضة لإقرار المباركة وليس الزواج، فإن هذا يعطينا فكرة عن مدى الانقسام الداخلي الحادث في المجتمع البريطاني، ويفتح الأفق عما يمكن أن يترتب عليه المشهد من صراعات أهلية داخلية.

تتمثل خطورة تلك الصراعات في أنها تنطلق من جذور دوغمائية لا تقبل فلسفة المواءمات، ولا تمضي نحو التوافقات، فهي ليست قضايا نسبية يمكن التوصل إلى حلول تفاوضية من حولها، بل هي مطلقات لا تقبل سوى الكل، وتنفي المختلف، إلى حد قتله، وحديث عقود طوال من الحروب الدينية لا يزال قائماً في الداخل الأوروبي حتى الساعة، ويخشى المرء من أن يتم تكراره مرة أخرى قريباً.

 

أهي علمانية تقود إلى الإلحاد؟

تبدو علامة الاستفهام المتقدمة مثيرة للجدل والخلاف، وتحتاج إلى غوص عميق في بطن التاريخ المعاصر، وليس القديم، وتحديداً بالرجوع إلى منتصف القرن الماضي، فقد تسببت الحرب العالمية الثانية في إصابة أجيال أوروبية لاحقة بكثير من التفكك والتفسخ على صعيد الطروحات والشروحات الإيمانية ومواجهة تحديات العصر.

هنا وفي هذا السياق يمكن القول إن هناك بعض المؤسسات الدينية الكبرى مثل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية حاولت مجاراة روح العصر، لكن من غير تقديم تنازلات دينية تتصل بمفهوم الوحي الإلهي في الكتب المقدسة، فعقدت ما يعرف بالمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي بدأ في عام 1962 في عهد البابا يوحنا الثالث والعشرين، واختتمت فعالياته عام 1965 في عهد البابا بولس السادس.

كان الهدف هو تقديم الإيمان بروح عصرانية، فيما الذين تخلفوا عن متابعة تقديم الدين بتلك الروح العصرانية استطاعت الحركات العلمانية المتزايدة والحركات الإلحادية المتمادية اختراق صفوفهم وتبديد شراكاتهم الإيمانية.

اليوم ليس سراً القول إن نتاج هذه العلمانية الجافة هو اضمحلال الثوابت الإيمانية واهتراء المنظومة التراثية المسيحية لأوروبا.

وفي ظل عبادة الذات بات الإنسان -وليس الله- هو مركز التقديس، ولهذا تبقى فكرة المثلية الجنسية والدفاعات المستميتة من حولها واحدة من التحديات التي تسهم في إفراغ المجتمعات الأوروبية من أي رؤى إيمانية تنويرية ذات أبعاد كتابية أي لها علاقة بالرسالات السماوية.

يعتقد كثيرون أن أفضل طريق للحفاظ على أجيال قادمة من المسيحية والمسيحيين في أوروبا هو التماهي مع قبول فكرة زواج المثليين.

وصل الأمر في التطرف العلماني حد تغريد القس كلفين هولدسوورث، خادم كنيسة سانت ماري في غلاسكو، وهو مثلي الجنس، عبر حسابه على موقع “تويتر” قائلاً “إن الوسيلة الأسرع لجعل الكنيسة الإنجليكانية أكثر تقبلاً وترحاباً بالمثليين هي الصلاة كي ينعم على الأمير جورج ذات يوم بحب شاب وسيم”.

هل ستقود العلمانية المنفلتة بريطانيا أولاً، وعموم أوروبا والغرب ثانياً لمزيد من التناحر الذي يسبق الاندحار؟

قد يكون هذا هو رأي بعض رجال الدين البريطانيين المحافظين أنفسهم، ومنهم القس غافين أشندن، الملحق سابقاً بالملكة إليزابيث الثانية، والذي وصف النداء الذي وجهه خادم كاتدرائية سانت ماري في غلاسكو بأنه أشبه بـ”النحس الذي يتحدثون عنه في الحكايات الخيالية عن السحرة”، مضيفاً “إنه من الأجدى بنا أن نتمنى للأمير جورج أن ينهض بواجبه كأمير عبر الإقدام على الزواج وإنجاب الأولاد”، وفق ما أدلى به لصحيفة “التايمز” البريطانية.

حديث المثليين البريطانيين اخترق أروقة المؤسسة الإنجليكانية عينها، ويكاد يتسبب في صراعات مستقبلية شديدة الخطورة داخلها، إذ إن سيامة المثليين أمر يصدع جدران تلك المؤسسة التي تقود نحو 85 مليون مسيحي.

وفي الخلاصة، فإن معركة رئيس الأساقفة الإنجليكاني جاستن ويلبي تقودنا حكماً إلى القطع بأن معارك العلمانيين المقبلة سوف تتصاعد وتيرتها، مما يفتح الباب للاعتقاد بجدية ما يروج له البعض الآن، ويعتبره البعض الآخر من قبيل أفكار المؤامرة العالمية، لا سيما فكرة تقليص عدد سكان العالم والوصول إلى فكرة “المليار الذهبي”، حيث يتمتع هؤلاء فقط بالخيرات التي تحفل بها الأرض.

معارك العلمانية الجافة حقاً مخيفة، فهي تتجاوز البلدان ذات الطبيعة العلمانية إلى دولة مثل إسرائيل بهويتها الدينية، فقد شاهد العالم منذ سنوات حملة احتجاجات غير مسبوقة لجمهور مثليي الجنس، الذين جندوا لإضراب عن العمل وتظاهرة ضخمة شارك فيها عشرات الآلاف، مطالبين بحقوق لهم مثل استئجار الأرحام.

من المؤكد أن حرية ورأي وتوجه كل شخص وتفضيلاته الإنسانية الخاصة هي أمور مقطوع بها، لكن يبقى التساؤل عن مشروعية إجبار الآخرين على اعتناق والإيمان بأفكار ورؤى تتجاوز الإيمانيات والقناعات الشخصية، ومن له السلطان على فرض هذه وتلك؟

 

المصدر: independentarabia
مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.