المسيحية والمسيحيون في العراق

ردنا – يُعدّ الدين المسيحي ثاني أكبر الأديان في العراق من حيث عدد الأتباع، بعد الإسلام. يعترف الدستور العراقي في مادته الثانية بالمسيحية باعتبارها أحد الأديان التي يضمن لأفرادها “حقهم الكامل في حرية العقيدة والممارسة الدينية”.

رغم ذلك، يعاني المسيحيون العراقيون من العديد من المشكلات في السنوات الأخيرة. كيف انتشرت المسيحية في العراق؟ وما هي أهم الدول المسيحية التي قامت في بلاد الرافدين؟ وكيف حافظ المسيحيون العراقيون على وجودهم في بلادهم رغم حملات الاضطهاد والعنف التي استهدفتهم على مر القرون؟

 

من توما إلى نسطوريوس

عرف العراق المسيحية في وقت مبكر. كان القديس توما الرسول أول من بشر بالدين المسيحي في العراق في القرن الأول الميلادي.

بعدها، انتشرت المسيحية في نواحي مختلفة من بلاد الرافدين، ولا سيما في المناطق الشمالية المتاخمة لتركيا الحالية. في هذا السياق، لعب الرهبان دوراً مهماً في نشر المسيحية. وبحسب ما ورد في كتاب السنكسار القبطي -وهو الكتاب الذي يضم سيّر القديسين والشهداء والآباء في الكنيسة القبطية المصرية- فإن القديس الراهب أوكين المصري سافر إلى العراق واصطحب معه في تلك الرحلة سبعين تلميذاً له، واختار بعد فترة من الترحال منطقة نصيبين ليقيم فيها، وسكن هناك في إحدى المغارات الجبلية، ومن حوله سكن تلاميذه. عاش أوكين في تلك المغارة لمدة ثلاثين سنة، وقصده الكثير من المسيحيين ليدرسوا عليه أصول الرهبنة، بعد فترة، انتشر المنهج الرهباني في شمالي العراق.

يذكر الباحث عماد توماس في دراسته “تاريخ الرهبنة السريانية” أن الكنيسة السريانية اهتمت في تلك الفترة بشأن الرهبنة، فأسست مئات الأديرة التي انضم إليها ألوف من الرجال والنساء. “ففي القرن الخامس، وجد في جبل الرها وحده ثلاثمئة دير، يقيم فيه تسعون ألف راهب، وفي دير مار متى شرقي الموصل اثنا عشر ألف راهب”!، يقول توماس.

تحتفظ لنا الكتابات السريانية بأسماء العديد من الرهبان العراقيين الذين اشتهر أمرهم بين الناس. وذاع صيتهم بسبب ما نُسب إليهم من كرامات وخوارق. يحكي ثيودوريتوس أسقف قورش في كتابه “تاريخ أصفياء الله” قصص العديد من هؤلاء الرهبان، ومنهم الراهب إبراهيم الكشكري الكبير الذي ولد في أواخر القرن الخامس الميلادي، ويُنسب إلى مدينة كشكر الواقعة في منطقة الكوت. قام إبراهيم بالتبشير بالمسيحية في مملكة الحيرة. وبنى ديراً كبيراً في منطقة نصيبين.

كان العراق على موعد مهم في تاريخ علاقته بالمسيحية في القرن الخامس الميلادي، في تلك الفترة، تم عقد مجمع أفسس في سنة 431م، ورُفضت فيه أفكار نسطوريوس، بطريرك القسطنطينية بخصوص طبيعة المسيح. على إثر ذلك، انتقلت أفكار نسطوريوس إلى العراق وبلاد فارس.

وتم تأسيس الكنيسة المعروفة باسم كنيسة المشرق، وقد ظلت تلك الكنيسة قائمة في العراق لقرون متوالية حتى انقسمت في وقت متأخر إلى كنيستين كبيرتين، وهما كنيسة المشرق الآشورية التي ظلت محافظة على أفكار نسطوريوس، وكنيسة الكلدان الكاثوليك التي تتبع بابا الفاتيكان. وبحسب بعض الآراء، فإن هذا الانقسام وقع في القرن السادس عشر الميلادي.

في سنة 1552م، قدم رسل الفاتيكان لنشر الكاثوليكية في العراق، ونجحوا في نشر مذهبهم فيما يدعى اليوم بسهل نينوى،  فيما حالت صعوبة المواصلات في تلك الفترة دون نشر أفكارهم في المناطق الجبلية الوعرة. تسبب ذلك في اعتناق أهل السهول للكاثوليكية، وعرفوا باسم الكلدان/ البابليين. فيما بقي أهل الجبال على مذهبهم القديم، وعُرفوا باسم الأشوريين.

 

مملكة الحيرة المسيحية

ارتبطت المسيحية في العراق بواحدة من الممالك المهمة، وهي مملكة الحيرة القديمة. نشأت تلك المملكة في نهايات القرن الثاني الميلادي، وعُرفت باسم مملكة الحيرة نسبةً إلى عاصمتها، بينما اُطلق اسم المناذرة على ملوك تلك المملكة لأن العديد منهم سُمي باسم المنذر.

تمتعت مملكة الحيرة بقدر كبير من الحرية الدينية. لم ير أكاسرة فارس بأساً من انتشار المسيحية في بلاد الحيرة المتاخمة لهم. يفسر الباحث العراقي جواد علي هذا الأمر في كتابه “المُفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” بكون المجوسية -التي اعتنقها الفرس- لم تكن ديناً تبشيرياً، من هنا لم يقع الصدام بين الفرس والمناذرة.

وعلى النقيض من ذلك، حدث في الكثير من الأحيان أن توافق الطرفان دينياً وسياسياً. اعتنق العديد من ملوك المناذرة المسيحية وفق المذهب النسطوري، ولمّا كان هذا المذهب معادياً للمذهب الملكاني الذي أقرته الإمبراطورية البيزنطية فقد أيده العديد من ملوك فارس نكايةً في عدوهم اللدود، وذلك بحسب ما يذكر الباحث محمد مبروك نافع في كتابه “عصر ما قبل الإسلام”.

يشرح جواد علي الدور المهم الذي لعبته مملكة الحيرة في نشر المسيحية النسطورية بين القبائل العربية القريبة، فيقول: “تسربت النسطورية إلى العربية الشرقية من العراق وإيران، فدخلت إلى “قطر” وإلى جزر البحرين وعمان واليمامة ومواضع أخرى… ومن الحيرة انتقلت النسطورية إلى اليمامة، فالأفلاج فوادي الدواسر إلى نجران واليمن، وصلت إليها بالتبشير وبواسطة القوافل التجارية، فقد كانت بين اليمن والحيرة علاقات تجارية وثيقة، وكانت القوافل التجارية تسلك جملة طرق في تنمية هذه العلاقات وتوثيقها، وقد قوي هذا المذهب ولا شك بعد دخول الفرس إلى اليمن”.

 

مسيحيو العراق تحت الحكم الإسلامي

ظلت المسيحية غالبة على أهل العراق حتى بدايات القرن السابع الميلادي. في تلك الفترة، خرجت الجيوش العربية من شبه الجزيرة العربية وعملت على التوسع في بلاد العراق والشام، ولم تمر سنوات معدودة حتى أضحى العراق جزءاً من دولة الخلافة الإسلامية.

بشكل عام، حظي المسيحيون العراقيون بمعاملة متسامحة من قِبل العرب القادمين من شبه الجزيرة. ويمكن تفسير ذلك بأن الدين الإسلامي اعترف بالمسيحية بوصفها إحدى الديانات الكتابية ذات الأصل الإلهي.

وتذكر المصادر التاريخية أن الكثير من المسيحيين العراقيين لاقوا التقدير والاحترام من قِبل السلطات السياسية الحاكمة.

يقول الجاحظ في إحدى رسائله: “إن النصارى، متكلمين وأطباء ومنجمين، وعندهم عقلاء وفلاسفة وحكماء… وإن منهم كتّاب السلاطين وفرّاشي الملوك وأطباء الأشراف والعطّارين والصيارفة… وأنهم اتخذوا البراذين والخيل واتخذوا الشاكرية والخدم والمستخدمين وامتنع كثير من كبرائهم من عطاء الجزية”.

من هنا، لم يكن من الغريب أن يبزغ نجم العديد من المسيحيين العراقيين، ومنهم كل من الشاعر الأخطل، والمترجم يوحنا بن البطريق، والطبيب حنين بن إسحاق، والفيلسوف يحيى بن عدي.

رغم ذلك، وقعت العديد من حملات الاضطهاد ضد المسيحيين العراقيين. فعلى سبيل المثال تعرض المسيحيون للاضطهاد زمن حكم الخليفة المتوكل على الله العباسي في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، فقد أصدر المتوكل مجموعة من القرارات المقيدة لحرية المسيحيين.

يذكر المؤرخ ابن جرير الطبري تفاصيل تلك القرارات في كتابه المعروف “تاريخ الرسل والملوك”. يقول: “أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير وركوب السروج بركب الخشب… وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وإن كان الموضع واسعاً صير مسجداً، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجداً صير فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة، تفريقاً بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يُستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي تجري أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليباً، وأن يشمّلوا -يمشوا ناحية اليسار- في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، لئلا تشبه قبور المسلمين”.

تتابعت حملات الاضطهاد ضد المسيحيين العراقيين في العصر الحديث أيضاً. و من ذلك، الحملات المعروفة باسم “مذابح سيفو”، والتي شنها العثمانيون على الآشوريين المسيحيين في شمالي العراق في الفترة من 1914- 1920م، وما وقع في سنة 1933م، عندما وجه رئيس الوزراء العراقي رشيد عالي الكيلاني بعض فرق الجيش لتدمير العشرات من القرى الآشورية المسيحية في الموصل، وذلك على إثر مطالبة الآشوريين المسيحيين بالحكم الذاتي لمناطقهم، فيما عُرف باسم “مذبحة سميل”، وذلك بحسب ما يذكر الكاتب محمد عادل داود في كتابه “تاريخ الدماء”.

تزامنت آخر حملات الاضطهاد ضد المسيحيين مع سيطرة تنظيم  “داعش” على المناطق الشمالية والغربية من العراق في الفترة بين 2014 و2017م.

تعرض المسيحيون القاطنون خلال تلك الفترة للعديد من المخاطر. تم تدمير العشرات من الكنائس والأديرة، كما هُجرت المئات من العائلات المسيحية. وبحسب بعض التقارير لم يبقَ في العراق اليوم سوى 400 ألف مسيحي من أصل 1.5 مليون مسيحي تواجدوا في العراق في سنة 2003م.

في مارس سنة 2021م، زار البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، الأراضي العراقية في رحلة تاريخية حظيت باهتمام واسع من قِبل ملايين المسيحيين المنتشرين حول العالم. وأكد البابا في زيارته أن “التناقص المأساوي في أعداد تلاميذ المسيح، هنا وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط، ضرر جسيم لا يمكن تقديره”.

ورحب في كلمته التي ألقاها في الموصل “بعودة الجالية المسيحية إلى الموصل لتقوم بدورها الحيوي في عملية الشفاء والتجديد”. وكذلك صلى “من أجل ضحايا الحرب والنزاعات المسلحة”، مؤكداً أن “الرجاء أقوى من الموت، والسلام أقوى من الحرب”.

 

المصدر: مواقع إلكترونية

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.