أنطوان ضومط في «المسيحيون المشرقيون ودول الخلافة الإسلامية»: قادة ومتطرفون خالفوا رؤية النبي حول المسيحيين

سمير ناصيف

إحدى القضايا الرئيسية المطروحة حالياً في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي عموماً هي ما إذا كان التوجه الإسلامي لبعض دول المنطقة يسعى إلى التعايش المتوازن والعادل مع الأقليات المسيحية فيها أو يحاول إعادتها إلى موقع ثانوي خلافاً لتعاليم القرآن وتوجهات رسول الإسلام.

وصدرت كتب ودراسات عديدة في هذا المجال، بعضها توجهها أكاديمي موضوعي والآخر غير ذلك، وقد تكون له الدوافع والأهداف السلبية السياسية التحريضية على الانقسام أو ربما النقص في التعمق في الدراسة والأبحاث التاريخية والسوسيولوجية للمنطقة وفي النصوص الدينية الإسلامية.

أحد الكتب الجادة في أبحاثها ودوافعها في هذا المجال صدر مؤخراً للبروفسور أنطوان ضومط الأستاذ المتقاعد في مادة التاريخ العربي والإسلامي في العصور الوسطى في الجامعة اللبنانية بعنوان «المسيحيون المشرقيون ودول الخلافة الإسلامية، جدلية السلطة والدين».

مقاربة هذا الكتاب الرئيسية كما وردت في الفصول الأولى والأخيرة منه (على الأخص) هي أن «معاملة القادة المسلمين للأقليات غير المسلمة في بلدانهم اختلفت تبعاً لقدرة الحاكم ولحاجته لتأييد مذهبه في نظامه لا من حيث الاقناع أو الجدارة انما من حيث الأمر الواقع، بحيث اعتبرَ بعض الحكام أو رجال الدين المسلمين أن غير المسلمين هم أعداء طبيعيون». (ص 14).

وفي بعض المراحل التاريخية للمنطقة: «تم قبول أهل الكتاب في المجتمع عامة ومنهم المسيحيون من دون اعتبارهم جزءاً من الأمة التي اقتصرت على المسلمين وحدهم». (ص 24). ويضيف الكاتب ان الرسول ربما أبقى تفاعلات أوضاع المسيحيين المكرّمين في القرآن الكريم الذي مجّد السيدة مريم العذراء وأقر بقداسة السيد المسيح. ولعل أنه لخشية الرسول بأن تساء معاملة المسيحيين من بعده في السلطة الإسلامية الثيوقراطية، حصّنهم في تعاليمه وأجاز لهم البقاء على مسيحيتهم والعيش في الدولة الإسلامية الجديدة من دون التعرض لهم بسوء، إذ «لا إكراه في الدين». (ص 25).

وقد حذر الرسول المسلمين إزاء التقيد بهذا التعامل مع المسيحيين وإلى حسن تطبيقه وحذر الحكام وأولي الأمر من التلاعب بمضمونه. (ص 26). وأكد ضرورة تحصين الدين المسيحي محذراً من الحضّ به وخصوصاً في مجال «الحفاظ على المسيحيين وممارستهم ديانتهم وعدم إكراههم على تركها». (ص 27).

ويضيف: «عندما ازدادت قوة الحكام المسلمين وتوسعت فتوحاتهم وصاروا سادة المشرق العربي، طوروا مفهوم السلطة الإسلامية بما يتلاءم وتوجهاتهم فجعلوا هذه السلطة إسلامية بحتة وتشددوا ضد أهل الكتاب وفرضوا على غير المسلمين شروطاً مذلة نتيجة اجتهادات رجال دين متطرفين ورغبات قادة خالفت رؤية الرسول ومن دون مراعاة توجهات أحكام عهد الرسول ليبدأ تعامل جديد مختلف في مستلزماته مع المسيحيين». (ص 28).

ويؤكد الكاتب انه في عصر المماليك «صار الديني في خدمة الزمني من دون ضوابط شرعية أو وازع ديني أو أخلاقي واجتماعي، فتحصنت السلطة السياسية ببعض الفاسدين والفاسقين من رجال الدين ما أدى إلى خلل في الاجتماع الإنساني. وسلكت السلطة المملوكية هذا النحو السيء تجاه المسلمين أنفسهم وأرهقتهم بالانتهاكات غير المبررة وغير المقبولة إسلامياً بدعم من رجال الدين التابعين للسلاطين وبلاطاتهم». (ص 54 و55).

حصّن الرسول المسيحيين في تعاليمه وأجاز لهم البقاء على مسيحيتهم والعيش في الدولة الإسلامية الجديدة من دون التعرض لهم بسوء

وكل ذلك تم (حسب الكاتب) من دون مراعاة حقيقية للتعاليم الإسلامية وبالتالي: «عجزت الدولة في الإسلام حتى نهاية العصور الوسطى أن تصبح رشيدة أو فُضلى، وعن إرساء الإسلام الحقيقي وتطبيق شرائعه حتى على المسلمين أنفسهم فلم تساوِ بين المسلمين طبقاً للشرع في الحقوق والواجبات وفشلت في أن تكون نبراساً للدول غير الإسلامية لتحاكيها وتستبدل أنظمتها بالنظم الإسلامية أو ليتقبل غير المسلمين اعتماد الإسلام ديناً، كما أمعن بعض غلاة فقهائها باستخدام نظم لم ترد في القرآن ولا في سيرة الرسول لترهيب المسيحيين». (ص 56).

ويؤكد الكاتب في الفصول الأخيرة ان «مواقف المتشددين من رجال الدين ضد التآلف الاجتماعي المسيحي ـ الإسلامي (ولعل أبرزهم ابن تيمية) تميزت بالانزعاج والغضب بحيث جعلوا من الفوارق الاجتماعية بين المسلمين والمسيحيين وسيلة للتقرب من الله ـ فكتاب (السراط المستقيم) لابن تيمية مليء بالمواقف الحاضّة على اجتناب المسيحيين في أعيادهم، كما حرم استمرار دخول المسلمين الكنائس المسيحية في أيام الأعياد المسيحية لان مثل هذا الدخول (باعتقاده) يشكل مخالفة إلهية. وطرح ذلك دون الاستناد إلى دليل قرآني أو رسولي، ورأى دين النصارى ملعوناً، وانتقد المسلمين الذين يشاركون احتفالات المسيحيين في أعيادهم معتبراً إياهم مسلمين غير حقيقيين ومشككاً بصحة ايمانهم مسترشداً بأقوال الخليفة عمر بن الخطاب بضرورة اجتناب أعداء الله في أعيادهم، فيما لم يرد قول من الرسول محمد (صلعم) في هذا المجال، حسب الكاتب (ص 205 و206).

ويشير المؤلف ان ابن تيمية (وربما أمثاله) «صبّ جام غضبه على المسيحيين لأنهم ليسوا مسلمين ومن دون أن يناقش أي رجل دين مسيحي في مرتكزات إيمانه لكي يقنعه بالتحول إلى الإسلام فهو لم يقرأ ما يعتبره ورَد في القرآن إلا من منظاره ومن دون التطرق إلى الآيات في القرآن التي تمجد السيد المسيح ومنها على سبيل المثال ما جاء في (سورة مريم) في الآيات 17 و30 و33 و50.

ويعتبر الكاتب ان المسيحيين شكلوا جزءاً من المجتمع الإسلامي شابهت ممارساتهم من حيث السلوك الاجتماعي العام المسلمين في العمل والوظائف وأساليب الحياة، وذلك ما خلا الفترات التي أُجبروا فيها على لبس الغيار والامتثال للقيود في الدخول إلى الحمامات والصلاة وفق عهد الذمة لأسباب سياسية آنية.

ويستنتج بان «التعميم في التاريخ ساقط، وإذا كانت العصور الوسطى في مجتمعاتنا بمجملها ولا سيما في عصر المماليك حبلت باضطهاد وتعسف بحق المسيحيين بسبب الأوضاع القلقة والمضطربة التي رافقتها (كما يتسلط أو يحاول) بعض رجال الدين على بعض الحكام من خلفاء وسلاطين وأمراء، ويتبعهم حكام آخرون نظروا وينظرون إلى الإنسانية بمنظار ضيق جداً ويحصرون المكارم في الإسلام والمسلمين فقط، فإن الواقع الحالي يطرح أسئلة حول هذا التوجه بفضل حكام منفتحين برزوا مؤخراً في العالم العربي والشرق الأوسط». (ص 209).

فالتشدد ضد المسيحيين لم يؤت ثماراً في الماضي ولن يفعل ذلك في الحاضر وتخويف المسيحيين في المنطقة غير مجدٍ بنظر المؤلف وبالتالي يسأل: ما هو المطلوب من مسيحيي العالم العربي والشرق الأوسط؟ هل الانعزال في مناطقهم عن باقي السكان؟ واختيار نُظم محددة تميزهم وتبعدهم عن الفئات الاجتماعية الإسلامية في بلدانهم؟ الجواب برأيه هو كلا، إذ أن مثل هذا التوجه يناقض مسيرة التاريخ، فإذا كانت أنظمة العصور الوسطى مارست القمع والاضطهاد بحق المسيحيين بسبب الأوضاع الداخلية القلقة والمضطربة التي تعرضت لها فمثل هذا التوجه لا مكان له في تاريخ المنطقة الحديث، فالاضطهاد والقهر والفساد وعدم التقيد بأصول الدين في معاملة المسيحيين والأقليات الأخرى والمسلمين الآخرين قد ولى من غير رجعة وهو يخدم مشاريع أعداء العرب والمسلمين وعلى الأرجح ستتم مقاومته بشتى الوسائل من الجميع. فالآيات القرآنية تبارك المسيح عيسى وتعتبر تعاليمه نابعة من روح الله وترى في أقواله كلمة من كلمات الله». (ص 210).

وفي هذا السياق يقول الكاتب: «تُفسر المواقف والإجراءات المتطرفة التي اتخذتها بعض الجماعات المسيحية ضد الإسلام تعبيراً عن واقع مرفوض ضدها للخلاص مما كانوا يشعرون به من خوف وكبت وإذلال كالوقوف إلى جانب الغزاة المغول عندما هاجموا بلاد الشام وتدنيس بعض المقامات الإسلامية في بعض الجوامع، وهذا ينطبق على تعاطف بعضهم مع الفرنجة (الصليبيين) ضد المسلمين المشرقيين أبناء قومهم وتأييدهم المسيحية السياسية (بكافة توجهاتها) ضد الإسلام في جبل لبنان وبلاد الشام عامة. ولعل ذلك (بنظر الكاتب) نابع من الغُبن الذي طالهم وإلى رُعبهم من السيف المسلط أبداً فوق أعناقهم المتمثل بإعادة العمل بالشروط المذلة ما أشعرهم بغربة حقيقية في بلادهم وإلى خطر ايذائهم بالتعدي الجسدي عليهم ونهب ممتلكاتهم ومقدساتهم وتدنيسها». (ص 212 و213).

علماً ان السلطة التي مورست في العهد المملوكي (برأي الكاتب) «تسترت بالدين الإسلامي مدعية الدفاع عن المسلمين في المشرق العربي وبالجهاد ضد أعداء الإسلام، ولكن في الحالتين دافعت عن نفسها أولاً وعن تبرير وجودها ثانياً واستخدمت ذرائع للهيمنة على الرعايا في كل المستويات ولا سيما في الحقول الاقتصادية». (ص 213).

ويمكن الاستنتاج مما يقوله الكاتب في هذا المجال ان دولاً ومجموعات مسلحة قوية في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي والعربي قد تكون في مجال ممارسة مثل ذلك التوجه في تعاملها مع دول ومجموعات أخرى في المنطقة أضعف منها عسكرياً واقتصادياً.

كما قد يُستنتج أيضاً أن مثل هذه الدول والجهات القوية قد تتستر بالدين وبالمراجع الدينية وقادتها للاستيلاء على ممتلكات الناس. إذ انه في معظم مثل هذه الحالات تكون المراجع والسلطات الدينية في كثير من الأحيان تابعة للسلطات السياسية النفاذة والقوية. ولعل الأقليات وأبناء الطبقات الوسطى والفقيرة تشكل الضحايا الرئيسية نتيجة لهذه الممارسات.

ويقول الكاتب في خاتمة كتابه في (صفحة 218): «إن الحاكم المستبد الملتحف بالدين لا هوية دينية أو سياسية له، دينه الجشع ومذهبه الغضب المفتعل وإيمانه التسلط، ويستنسخ ذاته في أي مكان (شرقياً كان أم غربياً، لا فرق) ويدعمه رجل الدين المتشدد الذي يتمظهر إيمانه بالتعصب ورجاؤه برفض الآخر وتطلعاته بالتقوقع في إطار جامد يدعم تحالفاً بين السلطة والدين يهيمن على حقوق ومصالح الشعوب الخاضعة له».

 

المسيحيون المشرقيون ودول الخلافة الإسلامية

أنطوان ضومط

دار سائر المشرق، بيروت 2023

230 صفحة

 

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.