انتكاسة حوارات الحضارات والأديان

/ د. محمد السعيد إدريس

على الرغم من أن عام 2022 الفائت ، كان بجدارة عام تنشيط وتطوير الحوارات بين الأديان والحضارات، إلا أن الأسابيع الأولى من عام 2023 شهدت ما يمكن اعتباره أسوأ انتكاسة لهذه الحوارات فى ظل تفشى موجة عدوانية عنصرية أوروبية بشكل خاص ضد الإسلام والمسلمين وأهم رموزهم ابتداءً من تعمد الإساءة إلى نبى الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإساءة إلى القرآن الكريم، مرة بتعمد تمزيقه فى ما يشبه الاحتفال أمام البرلمان الهولندى ومرة بحرقه أمام مبنى السفارة التركية فى العاصمة السويدية استوكهولم .

فقد شهد عام 2022 العديد من المؤتمرات التى شهدت حوارات مكثفة بين الأديان والحضارات بدأت بأعمال المؤتمر السابع لقادة الأديان الذى استضافته كازاخستان (14/9/2022) بمشاركة 100 وفد من 60 دولة وحضره شيخ الأزهر الدكتور/ أحمد الطيب والبابا فرانسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية وبعده عقدت قمة للأديان للمرة الأولى على هامش قمة العشرين فى بالى باندونيسيا (4/10/2022) تحت مسمى منتدى بناء الجسور بين الشرق والغرب تحت شعار “من أجل عالم أكثر تفاهماً وسلاماً ومجتمعات أكثر تعايشاً ووئاماً.

وبعد أيام وبالتحديد فى يومى 17و 18/10/2022 نظمت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بالتعاون مع المجلس العالمى للتسامح والسلام” (التابع لدولة الإمارات العربية المتحدة) مؤتمراً دولياً وصف بأنه “رفيع المستوى” بعنوان: التسامح والسلام والتنمية المستدامة فى الوطن العربى، وقبل أن ينقضى العام 2022 استضافت مدينة فاس المغربية أعمال المنتدى العالمى التاسع لمنظمة الأمم المتحدة لتحالف الحضارات، لكن تفجر موجات التعصب والكراهية الأوروبية وضعت كل هذه المؤتمرات والمنتديات أمام طريق مسدود يفرض السؤال الصعب: هل يعود العالم مرة أخرى إلى الانخراط مجدداً فى دعاوى الصراع بين الحضارات، وينحدر بها أكثر نحو الصراع بين الأديان على أنقاض دعاوى السلام والتسامح ونبذ التعصب وتعظيم الحوار بين الحضارات والأديان والثقافات؟

السؤال بات ضرورياً لأن ظاهرة التنمر الأوروبى ضد الإسلام والمسلمين ورموزهم تحولت من ظاهرة فردية إلى ظاهرة مجتمعية فما حدث من اعتداء على القرآن الكريم خلال الأيام الأخيرة فى كل من السويد وهولندا انتقل إلى الدنمارك حيث قام متطرفون (27/1/2023) فى العاصمة الدنماركية كوبنهاجن بحرق نسخ من المصحف الشريف برعاية قوات الأمن وضوء أخضر من الدولة فى خطوة استفزازية جديدة لمشاعر ملايين المسلمين. هل سيواصل العرب والمسلمون استجداء الغرب تحت غطاءات من حوارات بين الحضارات وأخرى بين الأديان لم تجد طائلاً فى إحداث تغير فى الصورة النمطية التى جرى غرسها وتكريسها فى العقل الغربى عن العرب والمسلمين والإسلام، أم سيفكرون فى البحث عن أسباب العداوة الغربية للعرب والمسلمين وسياسات التمييز التى يمارسونها ضدهم؟ ولعل ما يؤكد ذلك هو التواطؤ الأمريكى – الأوروبى الممتد الذى يجرى حالياً على جرائم كيان الاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين، وتجاهل مطالب الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة على أرضه المحتلة.

وما يحدث الآن ضد فلسطين من تمييز عدائى حدث ضد العراق الذى كان ذروة ما دعا إليه الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش (الابن) من حرب ضد ما سماه الإرهاب الإسلامى، بقوله الحرب على الإرهاب عقب تفجيرات 11 سبتمبر 2001 فى واشنطن ونيويورك التى بدأت بالحرب ضد أفغانستان ثم الحرب ضد العراق تحولت إلى فوبيا إسلامية مسيطرة على الذهنية الغربية، ونقلت الصراع العالمى فى مرحلة ما بعد سقوط النظام الثنائى القطبية وتفكك الاتحاد السوفيتى من الصراع الايديولوجى الغربى الرأسمالى ضد الايديولوجية الماركسية التى يتبناها الاتحاد السوفيتى إلى “صراع بين الحضارات، وبتحديد أكثر صراع الحضارة الغربية ضد الحضارة الإسلامية والعالم الإسلامى، وتم التوافق الغربى على أن الإسلام والعالم الإسلامى هو العدو البديل بعد سقوط الايديولوجية الماركسية كما روج علماء السياسة والمفكرون الأمريكيون خاصة فرانسيس فوكوياما وجاء بعده صموئيل هنتنجتون ليروج لـ صراع الحضارات كبديل للصراع الايديولوجى، الذى بلور الواقع الحقيقى للعداء الغربى ضد العالم العربى والإسلامى وكان بمثابة إعادة إنتاج للخطاب العنصرى الغربى المتأصل منذ القرون الوسطى والحرب الصليبية، ومن قلب هذا الصعود العنصرى وسياسات التمييز الغربية ولدت دعوة حوار الحضارات كبديل يعكس ارتقاء الوعى والإدراك نحو التسامح والتعاون كمبادئ بديلة للصراع.

عقب سقوط الاتحاد السوفيتى وابتداء من عام 1990 واندفاع الولايات المتحدة الأمريكية لتأسيس إمبراطورية عالمية تقود العالم بأوامر إمبراطورية عليا مرتكزة على التمييز بين العالم الغربى وبقية المجتمعات العالمية، ظهرت دعوة “صراع الحضارات”، لكن هذه الدعوة تولد عنها رد فعل مضاد يرى أن ظاهرة العولمة والثورة التكنولوجية الهائلة فى عالم الاتصالات التى أخذت تبشر بتحول العالم إلى “قرية كونية” بدأ البعض يتحدث عن مفهوم الحضارة العالمية الواحدة أى أن التطورات العالمية ستقود إلى تداعى الخصوصيات الحضارية بين حضارات وثقافات العالم لمصلحة التأسيس لـ “حضارة عالمية واحدة”، وإلى جانب هذه الدعوة جاءت دعوة حوار الحضارات وفق مبادرة الرئيس الإيرانى الأسبق الدكتور محمد خاتمى فى خطابه أمام الأمم المتحدة عام 1999، ودعوته إلى “حوار الحضارات” وبناء عليه دعمت الأمم المتحدة هذه الدعوة واتخذت الجمعية العامة قراراً بالإجماع بأن يكون عام 2001 هو “عام حوار الحضارات وعقدت ندوات شتى تحت إشراف الأمم المتحدة واليونسكو حول حوار الحضارات لكن المحصلة النهائية جاءت على غير هوى المتحمسين لهذا النوع من الحوار على النحو الذى نراه الآن، الأمر الذى يفرض علينا الإجابة عن السؤال المهم: لماذا فشلت دعوة حوار الحضارات، وإذا كانت هناك ضرورة لهذه الدعوة للحوار بين الحضارات والأديان والثقافات فما هى الشروط اللازمة لإنجاح مثل هذه الحوارات، كى لا تبقى المسألة محصورة فى أبعادها الأخلاقية التى لا تجدى فى ظل سيطرة لغة المصالح على العلاقات الدولية.

 

المصدر: صحيفة الأهرام

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.