أضواء على المذهب الأشعري

سامح عسكر

المتفق عليه حين الحديث عن الفِرق والمذاهب، أن ينقل الباحث من كتب زعماء الفرقة والمذهب؛ لا من خصومها منعًا للتضليل؛ فالإنسان يميل لتقبيح خصومه والتشنيع على أفكارهم بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة نُصرةً للذات وجلبًا للمصالح، خصوصًا لو كان للفرقة دور محوري أو طرف في صراع خاص أو عام حينها يصبح النقل من كتب خصومها تضليلاً متعمدًا لا يليق.

وشخصيًا حين أتحدث عن أي فرقة ودين ومذهب فأميل لأسلوب العرض والنقد معًا؛ فيحصل العرض مني على الأغلبية، لكن النقد ورغم حدوثه لكنه مطلوب في استبيان الحقائق العلمية واستفزاز عقل القارئ وحمله على البحث في المادة المطروحة، وفي ذلك يتبع منهج العرض الأسلوب الوصفي، بينما النقد للمعيار، وهو اللازم لمناقشة الأفكار والمناهج بالعموم أن لا يكتفي الباحث بالوصف والعرض؛ فيخرج عن جادة العلم ويساهم نوعًا ما في إقناع بعض قراءه بأخطاء وبلايا الفرقة المقصودة، ولا يكتفي كذلك بالنقد فيغرق في شيطنة الخصوم وفرض معاييره الخاصة على الغير بتعسف.

وجهة النظر الأشعرية التقليدية تحكي نشأتهم بما يلي: “أنه حين اشتدت حملة المعتزلة الظالمة على الفقهاء وأهل السنة، وكثرت مظالم خلفاء المعتزلة كالمأمون، هبّ علماء السنة والجماعة دفاعًا عن الدين؛ فكان من هؤلاء الإمام “أبو الحسن الأشعري ” (260- 324 هـ) الذي عاش بالبصرة وانقلب على المعتزلة في الأربعين من عمره؛ أي سنة 300 هـ تقريبًا، وظل الأشعري ينافح عن السنة ويشرحها، فكان خير رسول للدين ومجدد القرن الرابع الهجري بإجماع المسلمين”، ولكي يردوا على إشكالية انتماء الأشعري للمعتزلة قبل انقلابه؛ أن ذلك الانتماء كان يتطلب منه الدفاع عن المعتزلة بنفس الحماس، وأنه كان يهاجم فقهاء السنة، قالوا: إن الأشعري كان عن السُنة باحثًا عن الحق حتى هداه الله؛ فلم يجلس الأشعري مجالس المعتزلة ولم يدافع عنهم أو عن عقائدهم ، ويبدو أن التاريخ ينصفهم في هذا التصور؛ فلم نرث عن الأشعري تراثًا معتزليًا ولم نعثر له على أقوال وعقائد قبل انقلابه، ولم يحكِ عالم وفقيه ومؤرخ مسلم عن الأشعري أي شئ في فترته الاعتزالية حتى تتكون لدينا صورة عنه قبل وبعد.

ويمكن اعتبار أن الوثيقة القادرية للخليفة العباسي القادر بالله سنة 408 هـ هي الإعلان الرسمي للمذهب الأشعري، وبدء حقبة نشر أقوال ذلك المذهب كدستور إسلامي مُلزِم جرى بناءً عليه اضطهاد كافة الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى عدا الأشعرية والماتريدية؛ فتم منع كتب المعتزلة والشيعة والحنابلة في إطار السلطة العباسية بعد هذه الوثيقة، بينما راجت كتب المخالفين في كنف الدول الأخرى المعارِضة سياسيًا للخليفة كالفاطمية والحمدانية والبويهية وغيرها، ولأن الحنابلة كانوا من الفرق الممنوعة نسبيًا، لم يغادر زعماؤها المذهب بموجب الوثيقة؛ بل شرعوا بالتقريب بين المذهبين “الأشعري والحنبلي” ليحصلوا على اعتراف السلطة السياسية، ومن أبرز وقائع هذا العمل ما فعله الإمام “أبو يعلي بن الفراء الحنبلي” (380 – 458 هـ) حين كتب كتاب “المعتمد” كفّر فيه الأشعرية ووصفهم بالجهمية والمعطلة، لكن بعد الوثيقة سحب كتاب المعتمد وحذف منه هجومه على الأشعرية واعتمد الباقي تحت عنوان “الأحكام السلطانية” لدعم الخليفة العباسي ونصرة شريعته الجديدة، وقد اعترف أبو يعلي في مقدمة كتابه الأحكام السلطانية بهذا الإجراء، لكنه لم يصرح بماهية ما حذفه، إنما عُرف ذلك بالاستنتاج وفقًا لسياق ظهور ذلك الكتاب من الناحية السياسية.

 

وسبق القول فيما حدث من الحنابلة جراء تلك الوثيقة ؛ فشرعوا للتأليف ضد هذا الهجوم الأشعري ومنع اضطهادهم والتخفيف عنهم فحدث أمرين اثنين:

  • قام الحنابلة بتأليف كتاب “الإبانة” ونسبه للأشعري ليُظهروا أن الأشعري كان حنبليًا يقول برأيهم في تقديم المنقول على المعقول، وإثبات الصفات الخبرية لله في الكتاب والسنة، والهدف من ذلك الإجراء تخفيف القمع السياسي العباسي عنهم وإقناع السلطان بأنهم على مذهبه، ولا زال الكتاب حتى الآن مصدر نزاع بين السلفية الذين يثبتونه والأشعرية الذين ينكرونه.
  • رد الأشعرية بكتاب “اللمع في الرد على أهل الزيغ” ونسبوه للأشعري، وجعلوه يهاجم الحنابلة وعقائد الإثبات، علمًا أن أقدم مخطوطة للمع كتبت بعد وفاة الغزالي سنة 505 هـ؛ أي بعد وفاة الأشعري بـ 200 سنة، والكتاب غير مسند ومؤلفه مجهول، لكن عقيدته كانت أشعرية على طريقة ابن عساكر والبيت السبكي، وهو اختصار لأشهر شيوخ الأشعرية في القرنين 7، 8 هـ للفقهاء “عليّ بن عبدالكافي ” وشهرته (تقي الدين السبكي) وولديه تاج الدين (عبدالوهاب السبكي) و بهاء الدين (أحمد السبكي).

الكتابان متعارضان بنسبة كبيرة، ومؤكد أن الذي كتبهم أكثر من شخص مختلفين عقائديًا في حين نسبوا الكتاب لشخص واحد هو لديهم فرصة لخداع السلطان، أي أن الدافع من تأليف هذه الكتب كان سياسيًا في صورة كلام عقائدي و لمحة فلسفية، والدارس في هذا التاريخ تحديدًا أي القرنين 5، 6 هـ كان نحل وتزوير الكتب منتشرًا؛ فكما زوّر الحنابلة والأشعرية كتبًا للأشعري، زوّر الأحناف كُتبًا لأبي حنيفة منها “الفقه الأكبر والفقه الأبسط”، رغم أن مؤلفهم الحقيقي ” أبو بكر بن محمد الكاساني” متوفي في القرن 6 هـ تقريبا، أي بعد وفاة أبي حنيفة ب 400 عام. ويصعب بشكل أقرب للمستحيل وصل هذا الكتاب تاريخيًا لأبي حنيفة، وكذلك يصعب لحد الاستحالة وصل كتب الإبانة واللمع للأشعري، وما يحدث حاليًا في الوسط الثقافي من نزاع بين السلفية والأشعرية بخصوص كتاب الإبانة لخير دليل على استحالة حسم ذلك الإشكال لفقدان المعلومة وبُعد الزمن، والتعصب المذهبي عند كلا الفريقين.

على جانب آخر، فمن أشهر كتب الأشعرية التي تشرح المذهب وتدافع عنه ” العقيدة السنوسية ” والكتاب الأصلي بعنوان “عقيدة أهل التوحيد الكبرى” للإمام “محمد يوسف السنوسي” المتوفي عام 895 هـ، ويعتبر هذا الكتاب – إضافة لجوهرة اللقّاني – عمدة الشافعية والأشعرية في شرح مذهبهم، وتعد نظرية “الكسب” أشهر عقائدهم في خلق الأفعال، ومعناها أن الله خلق فعل الإنسان وأراده خيرًا وشرًا، لكن الإنسان بنواياه يكتسب أفعاله في صحيفته، وهذا قول الجبرية بالأساس. لذلك فالأشعري متهم بالجبر عند كثير من الفرق العقلانية كالمعتزلة والفلاسفة، والبدعة الجبرية عند الحنابلة، والسبب أن الكسب لا معنى عقلي له ولا أساس له نقلي؛ فخالف كل المذاهب مع عدم وضوح المنهج بشكل حاسم، نظرًا لأن الأشعري خرج بمنهج وسط بين الاعتزال والحنابلة؛ فلم يحصل على حسنات أي منهم، وشاب مذهبه “الغموض والتضارب”؛ فلا يؤمن بالعقل والتفكير في فهم الدين ولا بالحديث والرواية في الحكم على النصوص.

 

لذا وصفت نظرية الكسب بالضعف العلمي لعدة اعتبارات:

  • أن الله يخلق الأفعال والإنسان يكسبها حين يريد؛ فماذا لو أراد الإنسان ولم يفعل؟وهل الوعد والوعيد على الأفعال أم مجرد النوايا؟
  • أن الإنسان الفاعل الكاسب بقوة مقدورة من الله، والتقدير قوة إلهية جعلته يكسب، والجعل خلق، وعلى ذلك فحسب قولهم بأن الله هو الذي يكسب لسبق تقديره لأفعال الإنسان.
  • الإصرار والتوكيد على أن الله يخلق أفعال العباد، جعل من إرادة الإنسان تحصيل حاصل ، وأنها في النهاية تصب فيما لا يعلمه فيُسلّم لذلك جبرًا، والدليل على ذلك أن الكسب لم يُعالج بيئة الإنسان ومجتمعه في صناعة عقائده، والحاصل أن الإنسان منزوع الإرادة فيما يختار، وأن المجتمع هو الذي يختار
  • الخلط بين الفعل الذاتي والفعل الخارجي؛ فالأول هو فعل الإنسان (كسبه)، والثاني هو ما فعله الآخر للإنسان مثل اختيار اسمه وعائلته ونَسبه ودينه وغناه وفقره، وفي تقديري أن هذا الخلط نَجَم عن عدم(أو سوء) تحرير علاقة المجتمع بالفرد ضمن إطار نظرية الكسب.

ومن عقائد الأشعرية أيضًا “جواز رؤية الله يوم القيامة” وفقًا لتفسيرهم قوله تعالى “وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة” [القيامة 23: 22] وفي ذلك سلك المعتزلة مسلك التأويل وقالوا باستحالة رؤية الله، لأن حدوث ذلك يعني نسب الحد والكيف للخالق، لكن الأشعري قال: يجوز رؤيته يوم القيامة وفقًا للقرآن ولكن بلا كيف وبلا حدّ، وقد كتب الإمام “أبو بكر الباقلاني” (338- 403 هـ)  في كتابه “الإنصاف” في الاستدلال على ذلك حين قال “في قوله تعالى على لسان موسى: ” رب أرني أنظر إليك ” قال الباقلاني “، ولولا علمه بجواز الرؤية بالإبصار لما أقدم على هذا السؤال.” (الإنصاف صـ 6)، والحقيقة أن هذا سؤال الجاهل المتشكك لا العالم، على وزن “رب أرني كيف تحيي الموتى” في حق النبي إبراهيم، وبطريقة الباقلاني سيكون إبراهيم عالمًا بعجز الله عن الإحياء فأراد امتحانه، أو بصيغة أخرى جواز نسب العجز إلى الله.

ومن راجع أسباب قدسية رجال الدين نجدها انطبقت على الباقلاني؛ فهو كان من رجال البلاط المدعومين سياسيًا؛ خصوصًا من القادر بالله، ويمكن اعتبار الوثيقة التي صدرت من القادر بإلزام الشعوب بمعتقد الأشعرية مصدرها كتب “الإنصاف وهداية المسترشدين” للباقلاني يعني أن الرجل لم يمت في الحقيقة؛ بل لا زال يحكم بأفكاره إلى اليوم بعد تقنين مواد الوثيقة القادرية لتكون هي (عقيدة أهل السنة والجماعة) ودستور مذهب السنة إلى اليوم، ومن يتأمل خطأ الشيخ وتبريره لفتوى رؤية الله الأشعرية تجد أنه كان مقلدًا لمن سبقوه في تنزيه أهل الحديث من الخطأ، ولم ينتبه أن لزوم قوله هذا سيكون طعنًا بالله والأنبياء معًا، والمتفحص في كتاب الإنصاف بالخصوص سيجد عشرات الأخطاء والسقطات على تلك الشاكلة.

 

والناظر عموما لكتب الأشاعرة نجدها تنحو منحى وسطًا بين بعض الفرق المتخاصمة ظنًا منهم أن الحق وسط بين المُغالين؛ فكان سبق وصف خصومهم بالغلوّ والجهل مقدمةً لقولهم بالتوسط ، وقد رأينا ذلك في عدة مواضع:

  • الأولى: قولهم بأن مرتكب الكبيرة لو كان مؤمنًا فهو في مشيئة الله إذا شاء عفا عنه وإذا شاء عاقبه، لكنه لا يخلد في النار، لأن الخلود عقوبة حصرية للكافرين، وهذا القول منهم رد على المعتزلة الذين قالوا بخلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات دون توبة وفقًا لتوصيف مرتكب الكبيرة لديهم بأنه ليس مسلمًا وليس كافرًا ، ورد أيضًا على المرجئة الذين قالوا بأن المؤمن بالله لا تضره كبيرة وهو من الناجين يوم القيامة، هذا بغض النظر عن صدق هذه التصورات الأشعرية للمذهب المعتزلي ومذهب الإرجاء؛ فقد سبق القول في دراسات سابقة على مواطن بتفصيل والرد على هذه التصورات.
  • الثانية: قولهم بأن شفاعة الرسول مقبولة للمؤمنين العُصاة؛ فيشفع فيهم الرسول بأمر الله، وهذا رد على المعتزلة الذين نفوا حدوث الشفاعة كليًا، وأكثرهم على أن القول بالشفاعة خرق واضح لمبدأ الوعد والوعيد القرآني الذي هو أصل من الأصول الخمسة للمعتزلة، ورد أيضًا على الشيعة الذين قالوا بشفاعة الرسول والأئمة الاثنى عشر للعُصاة يوم القيامة؛ فكان قول الأشاعرة بحصر أمر الشفاعة فقط للرسول وفي حق عصاة المؤمنين دون غيرهم هو وسط بين الاعتزال والتشيع.
  • الثالثة: قولهم بأن القرآن فقط هو غير مخلوق لا حادث، ردًا على المعتزلة الذين قالوا بأن القرآن مخلوق وحادث، وعلى الحشوية الذين قالوا بأن اللفظ والحرف والصوت والألوان والأجسام التي كتبت بها المصاحف غير مخلوقة، وينبغي لها أن تُقدّس وفقًا للمنقول في بعض كتب التراث، ويظهر من هذا القول أن الأشاعرة كانوا وسطًا بين الاعتزال والحشوية الذين وصفوا عند بعض المذاهب وصفًا للإشارة لبعض فقهاء الحنابلة والحديث.
  • الرابعة: قالوا بنظرية الكسب التي تعني أن الإنسان لا يقدر على إحداث شئ، ولكن باستطاعته أن يكسب أعماله في صحيفته بنواياه، وهذا رد على المعتزلة الذين قالوا بخلق الإنسان لأفعاله بقوة أودعها الله فيه، وعلى الجبرية الذين قالوا بأن الإنسان لا يستطيع إحداث شئ بالمطلق، وأنه مسير لا مخير؛ فهو كالريشة في مهب الريح، برغم أن هذه النظرية عند بعض المذاهب كالمعتزلة والشيعة هي نظرية جبرية محضة، وسبق أن عرضت لبعض إشكالياتها في ثنايا هذا المقال منذ قليل.
  • الخامسة: قولهم بأن الصفات الخبرية في القرآن والسنة – كاليد والساق – مثبتة لفظًا لكن مُفوضة معنى وكيفًا، وهو رد على المعتزلة الذين يقولون بتأويل هذه الصفات منعًا للتشبيه والتجسيم، وعلى المُجسمة الذين قالوا بأنها جوارح على حقيقتها التي نعرفها؛ فقال الأشاعرة بقول وسط بين هؤلاء أن اللفظ ثابت؛ فاليد حقيقية لكنها ليست كأيدينا؛ بل مجهولة الكيف تليق بجلال الله، ومُحال عليها الجهة والحد والتمثيل، لأن ذلك من صفات الحوادث والأعراض، ومن الأشاعرة من قال بتأويل بعض هذه الصفات على النَهَج المعتزلي، وهو الذي أثار حفيظة معظم الحنابلة مما استدعى لاتهام الأشاعرة بالتعطيل، لأن تأويل هذه الصفات عند الفقيه الحنبلي هو تعطيل لظاهر ومعنى الصفة المثبتة نصًا وبالتالي هو إنكار نص واضح من كلام الله.

وفي الحقيقة أن ملف الصفات الخبرية من أكثر الملفات الفكرية غموضًا ولبسًا بين فقهاء المسلمين، وقد سبق أن عرضت أسباب هذا الغموض واللبس في محاضراتي، منها أن الفقهاء لم يعالجوا ذلك الملف بطريقة علمية؛ بل بتعصب وتقليد لسلفهم وأئمتهم دون وعي بمدلولات ودلالات الألفاظ، مما يدل على أن ذلك الخلاف في معظمه كان لفظيًا لم يفطن لحقيقته الفقهاء ذلك العصر لعدم تطور العلوم خصوصًا اللغوية منها؛ فالفلسفات اللغوية حديثة جدًا منذ القرن 19 م، والبشر قبل ذلك لم يكونوا يدققون في مناهج اللغة وإشكالياتها ودورها في الخلافات الدينية بالخصوص؛ فجوانب مثل البنيوية والتفكيكية والتحليلية في قراءة النصوص كانت غائبة عن فقهاء القرون الوسطى جميعًا بمن فيهم الفلاسفة، والطبيعي أن فقهاء الأشاعرة والمعتزلة وكافة مذاهب المسلمين كانوا يتصورون النص الديني بشمولية وتعميم وحصر مبالغ فيه أحيانًا.

حتى إن فيلسوفًا كبيرًا كالقاضي الأندلسي “أبي الوليد بن رشد” (520 – 595 هـ) قال بما قال به المشبهة والمجسمة في نسب الحد والجهة لله في كتابه “مناهج الأدلة وعقائد الملة” في معرض نقده لعلم الكلام الأشعري، برغم أن القاضي ابن رشد كان فقيها مالكيًا يفترض من الناحية النظرية أن يكون أشعريًا، لكن في هذا الكتاب كان أقرب للحنابلة في إثبات الصفات، ويظهر أن قوة ووضوح النص على ظاهره تركوا أثرًا كبيرًا في نفس القاضي حمله على عدم اتباع نسق أفكاره العقلية في التأويل والتدبر، وإخضاع النصوص والكونيات لرؤية عقلية محضة عملاً بفلسفة أستاذه أرسطو، وأتصور أن عقلية بحجم ابن رشد ما كان لها أن تقول بالجهة والحد في حق الله، لولا أنه يصدق الأحاديث القائلة بذلك كفقيه سني منتسب نظريًا لأهل الحديث، لكنه مع ذلك عجز أن يقدم عقليته الفلسفية التأويلية المشهورة عنه في كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”.

ويعود ذلك بنسبة كبيرة في رأيي لعدم تحرير بعض المصطلحات في الفكر الإسلامي؛ فلم يحرروا بعد مصطلح “الكبيرة” وما هو والفرق بينه وبين الصغيرة، نظرًا لأن هذا الكبائر ليست موضحة قطيعًا في كتاب الله، وما ورثه المسلمون من أحاديث فيها مختلفة بشدة، وفي ذلك يقول الإمام محمد عبده (1849- 1905 م) مفتي الديار المصرية الأسبق: “اختلف العلماء؛ هل في المعاصي صغيرة وكبيرة أم المعاصي كلها كبائر؟ نقلوا عن ابن عباس أن كل ما عصي الله به فهو كبيرة، صرح بذلك الباقلاني والإسفراييني وإمام الحرمين، وقالت المعتزلة وبعض الأشاعرة: إن من الذنوب كبائر وصغائر.  وقال الغزالي: إن هذا من البديهيات، وقد اختلف في الصغائر والكبائر؛ فقيل هي سبع، لحديث صحيح في ذلك  ولكن الأحاديث الصحيحة في عدها مختلفة ومجموعها يزيد على سبع” (تفسير المنار 5/ 39).

فإذا كان مفهوم الكبيرة نفسه ليس واضحًا؛ فعلام اختلف الأشاعرة والمعتزلة؟ وقد كان جوهر خلافهم بالأصل حول مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن عاص أو منزلة بين الكفر والإيمان؛ فكيف نستغرب عدم وضوح الصفات الخبرية ومعانيها؟ مما أحدث لبسًا وغموضًا في الفكر الإسلامي لا زال باقيًا إلى اليوم، والسبب في ذلك هو تناول الفقهاء لتلك الملفات بعقلية السلف الشمولية القاصرة بالماضي، لا بعقلية الإنسان الحديث التي هي أكثر تطورًا وخبرة بالعلوم والتجارب والنزاعات، وفي تقديري أن نجاح الفقهاء في انتقالهم لذهنية الإنسان المعاصر التي هي أكثر خبرة وعلمًا لجرى اعتبار ما حدث في الماضي بهذه النزاعات العبثية مجرد فلكلور وتاريخ غير مُلزِم يستدعي نقده كما فعل الإمام “محمد عبده” حين عرض خلافات السلف حول مفهوم الكبيرة، معتبرًا أن حصرها في سبع كبائر غير مقبول لأحاديث ودلائل وصلت لغير ذلك.

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.