ملتقى للأديان والحضارات.. أنقاض أنطاكيا التركية تروي قصة تأريخ فريد
ردنا – منذ حوالي أسبوعين، يعيش محمد عصمت في أنقاض مسجد حبيب النجّار، أكثر المساجد التاريخية المشهورة في أنطاكيا، والذي أصبح معلمًا مدمّرًا في مدينة مدمّرة الآن لكنها كانت تشتهر منذ آلاف السنين بكونها ملتقى للحضارات، ويوقّرها المسيحيون والمسلمون واليهود.
لجأ الرجل السبعيني إلى المسجد، بعد الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا في السادس من فبراير/ شباط الحالي. هناك نام وصلّى تحت الأقواس القليلة التي لا تزال قائمة، حدادًا على مستقبل المدينة المشهورة بتاريخها.
الدمار في أنطاكيا شبه كامل، فجزء كبير من المدينة عبارة عن أنقاض، أما ما لا يزال قائمًا فهو غير آمن للعيش فيه. لقد غادر الجميع تقريبًا.
وقال عصمت لوكالة “أسوشييتد برس”: “يمكن إعادة بناء المسجد. لكن التراث القديم اندثر، وسيبقى الاسم فقط”.
دُمّرت أنطاكيا، المعروفة باسم “أنطيوخ” في العصور القديمة، مرارًا وتكرارًا بسبب الزلازل وأعيد بناؤها عبر التاريخ. لكن السكان يخشون أن يمرّ وقت طويل قبل أن تتعافى من هذا الدمار، وألا تسترد هويتها التاريخية الفريدة بالكامل.
بُنيت أنطاكيا عام 300 قبل الميلاد، وكانت واحدة من أكبر مدن العالم اليوناني الروماني، وتنافس الإسكندرية والقسطنطينية.
ويُقال: إن القديسين بطرس وبولس أسّسا فيها واحدة من أقدم المجتمعات المسيحية، وفيها ظهرت كلمة “مسيحي” لأول مرة.
اندماج الأديان
ويعتبر اندماج الأديان جزءًا من هوية مدينة أنطاكيا. وقال عصمت أن القرآن الكريم ذكر أن ثلاثة رسل من الله زاروا بلدة ليحثوا سكانها على الإيمان به، لكنّهم رفضوا ذلك فدمّر الله المدينة بانفجار عظيم. وأضاف أن القرآن الكريم لم يذكر اسم المدينة، لكن العديد من الروايات التاريخية تقول إنها “أنطيوخ” التاريخية.
والآن، لا يمكن الوصول إلى المسجد إلا عن طريق التسلّق فوق أكوام من الخرسانة والحجارة القديمة التي شكّلت ذات يوم مدينة أنطاكيا القديمة.
واحتوى الموقع في الأصل على معبد وثني قديم، ثم كنيسة، قبل أن يتحوّل إلى مسجد في النهاية. بُني المسجد في القرن الثالث عشر، ودُمّر نتيجة زلزال عام 1853، وأعاد العثمانيون بناءه بعد أربع سنوات.
وقال عصمت: كان النجّار من سكان أنطاكيا، وحثّ السكان المحليين على تصديق رسل الله المشار إليهم في القرآن. لكنهم قطعوا رأسه، وتدحرج رأسه على الجبل إلى المكان الذي يوجد فيه المسجد الآن. بينما تقول رواية أخرى: إن النجار كان مؤمنًا بالمسيح، الذي شفى تلاميذه ابنه من الجذام، فقُتل بسبب الترويج للدين المسيحي.
كانت أنطاكيا الحديثة بالفعل ظلًا لنفسها القديمة.
وشهدت في السنوات الأخيرة تدهورًا اقتصاديًا حادًا، وهجرة متزايدة إلى أوروبا والخليج. كان التوتر يتأجّج بين السكان المحليين الذين تناقصت أعدادهم في المدينة، مقابل تزايد عدد النازحين السوريين إليها.
ويخشى الكثيرون من أن المزيد من الناس قد يغادرون المدينة، إذا لم تجري عملية إعادة الإعمار بسرعة.
وفي هذا الإطار، قال يحيى جوشكون، نائب المدير العام للمتاحف والتراث الثقافي التركي للوكالة: “ربما في غضون شهر واحد، سنبدأ ترميم الأماكن التاريخية”.
من جهته، قال جان استيفان، صائغ الفضة وأحد المسيحيين القلائل المتبقين في المدينة للوكالة: “تدمير أنطاكيا خسارة للبشرية. ما زلنا نريد العيش هنا. ليست لدينا نية للمغادرة”.
كما دمّر الزلزال كنيسة الروم الأرثوذكس في أنطاكيا، والتي كانت مقرّ بطريرك الروم الأرثوذكس حتى القرن الرابع عشر، ودُمّرت في زلزال عام 1872 وأُعيد بناؤها.
وقال فادي هوريجيل، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في أنطاكيا: “لقد مُحي التاريخ مرة أخرى”.
قطعت جبال الأنقاض القدرة على الوصول إلى المساجد القديمة. كان البازار القديم في حالة خراب. تصطف المباني المدمّرة في شارع كورتولوس، الذي يُقال إنه أول شارع مضاء في العالم عندما أُضيء بالمشاعل ليلًا في العصر الروماني. كما تضررت أجزاء من المتحف الأثري.
خارج وسط المدينة، قام جبل الحج بحماية كنيسة القديس بطرس، إحدى أقدم الكنائس المسيحية، والتي تم بناؤها في كهف في الجبل، وتضمّ أقسامًا يعود تاريخها إلى القرن الرابع. وقد تضرّرت مجموعة من السلالم المؤدية إليها.
كانت هناك تصدعات في جدران كنيس أنطاكيا، موطن الجالية اليهودية في المنطقة التي يبلغ عمرها 2500 عام. توفي رئيس الجالية اليهودية في المدينة وزوجته. وقال الحاخام ميندي تشيتريك، رئيس اتحاد الحاخامات في الدول الإسلامية: إن حوالي 12 يهوديًا مقيمًا ومخطوطات التوراة في الكنيس تم نقلهم مؤقتًا إلى اسطنبول.
وأضاف تشيتريك أنه سيكون من الصعب على المسنّين والمجتمع اليهودي، الذي تضاءل عدده بسبب سنوات الهجرة، إعادة البناء. ومع ذلك، أنا متأكد من أنها ستعود”.
ويثق العديد من السكان بأن مدينتهم ستنهض بعد الكارثة.
وقال بولنت سيفسيفلي، الذي قُتلت والدته في الزلزال واستغرق إخراج جثتها أسبوعًا: “لسبع مرات، أعادوا بناء المدينة وأعادوا الحياة إليها مرة أخرى. الآن هي المرة الثامنة، وسنعيش فيها مرة أخرى”.
وأضاف، والدموع في عينيه، أن أنطاكيا ستعيش بشكل أو بآخر، والموت لا مفر منه. سنموت وسيأتي أناس جدد”.
المصدر: أسوشييتد برس + موقع العربي