لا قداسة للأديان.. الأمم المتحدة وحرية الكراهية
المستشار شفيق إمام
انشغلت الإنسانية كلها بالوجه المشرق لها في التضامن الإنساني في كارثة الزلزال التي داهمت كلا من تركيا وسورية، في الوقت الذي يتضامن فيه الإنسانيون في وجهها القبيح في تدمير الحياة الإنسانية، في أوكرانيا وإبادة الشعب الفلسطيني وغيرهما، ولعل ما يشهد على مقدار التناقض في مفهوم الإنسانية بالوجهين الطائرات الإسرائيلية التي أغارت على دمشق لتقتل أسراً كانت نياما في الفجر، فحصدت أرواح 15 شخصا وأصابت 28 من سكان حي كفر سوسة، ودمرت منازل هذا الحي الذي يعتبر من الأحياء الراقية في العاصمة السورية، في الوقت الذي كانت الطائرات الإنسانية تطير بالأدوية والمعدات الطبية والأغذية والأغطية لنجدة ضحايا الزلزال والتخفيف عنهم، كالتناقض ذاته الذي أصاب الإنسانية في استخدام الغرب حرية الرأي وحق التعبير عنه، والذي كانت تميمته أن «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية»، فتحول الى ظاهرة جديدة هي حرية الكراهية.
وهي الحرية التي امتطاها رواد السوشيال ميديا في بلادنا العربية والإسلامية، نقلا عن الغرب، بعد أن كانت قصراً عليه في ظلام القرون الوسطى، كما اتخذت في بلادنا شكل تكفير الفرد والمجتمع من بعض الجماعات المتطرفة، التي جعلت الإرهاب سلاحها في نشر فكرها العقائدي.
إلا أن الفارق بيننا وبينهم يظل أن حكوماتنا لا تعترف بحرية الكراهية ولا تسمح بها في ازدراء الأديان كما تعترف بها الحكومات في الغرب، حيث تسمح فيه بالتظاهر لحرق المصحف الشريف، كما حدث عندما سمحت هذه الحكومات للمتظاهرين بحرق المصحف الشريف منذ بضعة أسابيع، وأمام السفارة التركية في السويد، وأمام المركز الإسلامي في كاليفورنيا سنة 2017، وفي الدنمارك والسويد سنة 2019.
يحدث هذا في الغرب المسيحي، وقد وصل فيه السيد المسيح إلى أسمى مراتب الحب وأعلاها درجة في التسامح حتى مع الأعداء، في قوله «أحبوا لأعينكم وباركوا بعضكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم…إلخ» مما جاء من آيات المحبة والإخاء.
وقد احتفل الغرب منذ أيام بعيد الحب كما احتفلنا به، ليزيد النظام الرأسمالي الغربي، أرباحه في تصريف بضاعته من الهدايا التي تقدم في مناسبات الأعياد، فأصبح هذا الحب شكلا بغير مضمون، بسبب طغيان الماديات على الروحانيات في الغرب.
ولا يشفع في هذا الصمت من الحكومات الغربية على هذا الفعل الدنيء المقزز والماس بمشاعر ملايين من البشر، ينتشرون في كل بقاع المعمورة، ما تتذرع به هذه الحكومات من احترامها حرية الرأي وحق التعبير عنه، إذا تناست حرية العقيدة، حيث يدين بالإسلام أكثر من مليار ومئتي مليون مسلم.
فصمت هذه الحكومات وبرلماناتها على هذه التظاهرات وهذه الأفعال هو صمت سياسي لتتكسب من ورائه أصوات الناخبين من اللادينيين الذين بلغ تعدادهم في الاتحاد الأوروبي أكثر من 134 مليونا وأصوات من الملحدين الذين بلغ تعدادهم أكثر من 79 مليونا في ظل الإحصاء الأخير لعدد سكان الاتحاد الأوروبي الذي بلغ 464 مليوناً.
القداسة للسامية وحدها
ولكن الغرب لا يجد حرجا في أن يكيل بمكيالين، عندما يقرر أنه لا قداسة لدين من الأديان أمام حرية الرأي وحق التعبيير عنه أو حق التظاهر، في الوقت الذي تقيد فيه هذه الحرية وهذا الحق، بإصدار قوانين، أعدها اللوبي الصهيوني لاستخدامه ضد العرب والمسلمين ومن يناصر قضاياهم، واستصدروا من الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1972 قانون بليفين الذي يعاقب بالسجن على التفرقة أو الحقد أو العنف ضد أي شخص أو مجموعة أشخاص بسبب أصلهم أو انتمائهم إلى عرق أو أمة أو جنس أو دين، وهو قانون لا يستخدم إلا لحماية الآلة العسكرية والقمعية في إسرائيل، ضد كل من ينتقد أفعالهم بتهمة معاداة السامية.
تلاه قانون غايسو فابيوس سنة 1990 لسد الثغرات في قانون بليفن، بعد أن برأت محكمة في باريس عام 1983 المفكر والكاتب الفرنسي، روجيه صاروري من التحريض العرقي على اليهود، بسبب مقال نشره يوم 17/ 6/ 1982 يندد فيه بغزو لبنان، وقد حذت حذو فرنسا العديد من دول الغرب.
جريمة إزدراء الأديان
وعلى النقيض من ذلك تماما، فإن نظامنا القانوني في الدول الإسلامية يقوم على كفالة حرية العقيدة، ويجرم فعل ازدراء الأديان ويعاقب عليه، وتجري المحاكمات لكل من يرتكب فعلا أو يقترف قولا ينطوي على ازدراء دين من الأديان، حيث تمت محاكمة أبو إسلام، خلال فترة حكم التيار الإسلامي لمصر (2012 – 2013) وحكم عليه بالسجن عندما مزق الإنجيل على شاشة إحدى القنوات الفضائية، وفرقت سلطات الأمن المتظاهرين الذين تظاهروا أمام محبسه محاولين اقتحامه للإفراج عنه، بعد صدور قرار النيابة العامة بحبسه على ذمة التحقيق.
وحوكم أمام المحاكم المصرية كذلك الشيخ سالم عبدالجليل الذي وصف المسيحيين بالكفر على شاشة المحور الفضائية في مايو 2017 وحكم عليه بالسجن، وربما كان هذا الفكر موروثا تاريخيا لدى بعض الناس، ردا على آباء الكنائس الغربية السابقين في القرون الوسطى الذين وصفوا المسلمين بالكفر، وقد دعا البابا أوريان الثاني (1095م) في المجمع الديني إلى إنقاذ المسيحيين وبيت المقدس من براثن المسلمين الكفرة، فهذا الموروث التاريخي كرد فعل خطأ بل خطيئة، وقد اعترف الإسلام بالأنبياء، جميعا، ووصف المنتمين إلى الديانتين اليهودية والمسيحيه بأنهم «أهل كتاب».
فهذا الموروث التاريخي الغربي ليس عذراً لنا في أن نخالف شريعتنا السمحاء في حرية العقيدة التي جسدتها آيات الله البينات في قوله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ». (البقرة 256)، وقوله سبحانه: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا»، ويقول سبحانه: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً».
وقد حفلت سنة النبي عليه الصلاة والسلام بمعاهدات مع اليهود والنصارى، فيقول في عهده لليهود من بني عوف «إن يهود بني عوف أمة من المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوقع إلا نفسه وأهل بيته.
الأمم المتحدة وخطاب الكراهية
ولكن الأدهي والأمرّ هو صمت المجتمع الدولي الممثل في الأمم المتحدة عن جرائم ازدراء الأديان، بالرغم من مخالفة ذلك لاستراتيجيتها التي وضعها خبراؤها للحد من خطاب الكراهية، في الثالث والعشرين من سبتمبر سنة 2019، وهي الاستراتيجيه التي تعتبر استخدام لغة ازدرائية أو تمييزية ضد أي شخص أو مجموعة من الأشخاص على أساس الدين أو الأصل أو نوع الجنس، أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية خطاباً للكراهية (Hate speech).
وهي استراتيجية تلقي على عاتق حكوماتنا العربية والدول الإسلامية، بل على حكومات الدول ذات الأغلبية المسيحية التي تترسخ فيها ثقافة التسامح نحو الآخر، واجبٌ بأن تقدم مجموعة منها اقتراحا بأن تتعهد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بتجريم أي فعل أو قول فيه ازدراء للأديان والعقاب عليه، وفي السعي إلى تعديل اتفاقية روما بشأن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بتضمين هذا النظام، جريمة ازدراء الأديان، باعتبارها جريمة دولية، تدخل في ولاية المحكمة.