كيف تفاعلت الحضارة الإسلامية مع عيد النوروز؟.. الشعر العربي نموذجاً
ردنا – يقدّم الشعر صورة لشكل تفاعل الحضارة الإسلامية مع عيد النوروز، وهو الذي امتزج فيها منذ عصر صدر الإسلام بفعل دخول العديد من “شعوب النوروز” إلى الإسلام.
ومن الشواهد الأكثر وضوحاً على عدم الإنكار، ما يورده أبو عبد الله الصيمري، في كتابه “”أخبار أبي حنيفة وأصحابه”، عن أن الثابت بن نعمان (والد أبو حنيفة النعمان) قدّم حلوى للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولما سأله الإمام عن المناسبة قال: “اليوم نوروز”، ليرد عليه الإمام: “اصنعوا كل يوم نوروز”.
مرّ هذا العيد بأطوار مختلفة في العهود الإسلامية، تبعاً لتطور موقف السلطة من المناسبة، وشكل استقرارها في الوعي الجمعي للناس، وهو تطور واكبه الشعر والشعراء.
النوروز في العهد الأموي.. مناسبة للجباية
يعود ذكر النوروز في الشعر العربي إلى العهد الأموي، لكنه جاء ذكراً مختصراً بشكل يتناسب والنزعة القومية/ القبلية للخلافة الأموية التي لم تفسح المجال أمام الشعوب غير العربية للاحتفال بمناسباتهم، كما تقول دراسة بعنوان ” نوروز في المصادر الأدبية العربية”، للباحث لولاف مصطفى سليم.
على الرغم من ذلك، سَمح الأمويون في فترات متقطعة بالاحتفال بعيد النوروز، ليس من باب الحرص على إشاعة الحريات والتسامح مع الثقافة غير العربية، بل وسيلة لزيادة خراج الدولة.
حُدد عيد النوروز يوماً لتحصيل الخراج من المحتفلين على شكل ضريبة إضافية تؤخذ من العامة، مسلمين كانوا أم غير مسلمين، نظير احتفالهم بالمناسبة.
ولم يخرج ذكر النوروز في الشعر الأموي عن ذلك الغرض. ومن أشهر الشواهد قصيدة جرير” ألا حي ليلى إذ أجد اجتنابها”، التي نظمها في هجاء الأخطل التغلبي، وفيها يقول:
عَجِبتُ لِفَخرِ التَغلِبِيِّ وَتَغلِبٌ… تُؤَدّي جِزى النَيروزِ خُضعاً رِقابُها
“شعر النوروز”.. تطور المضامين
أبدت الدولة العباسية انفتاحاً ملموسا على الحريات الفردية، وساهم في ذلك زيادة التبادل الثقافي والمعرفي مع شعوب الدول المجاورة ذات النزعات والتوجهات الفلسفية المغايرة لشعوب البلاد المسلمة، وأظهرت تسامحاً مع طقوس تلك الشعوب وصل حد إدماجها وتضمينها ضمن الطقوس الاحتفالية للدولة.
وعليه، أصبح النوروز عيداً مستقراً في الدولة العباسية، وظهرت الطقوس الاحتفالية المستمدة من الشعوب صاحبة المناسبة، مع إضافة بعض الطقوس الجديدة لإضفاء المزيد من البهجة.
ويعكس الشعر شكل التطور الذي طرأ على العيد في العصر العباسي، فقد تجاوزت مضامينه “الجباية”، إلى مضامين إنسانية وفلسفية، إلى جانب المضامين التقليدية التي تدور في فلك المدح وتبادل الهدايا.
حلّت الهدايا في الدولة العباسية محل الجباية التي عُمل بها في العهد الأموي، فصار النوروز مناسبة لتبادل الهدايا بين العامة، وبينهم وبين الخلفاء الذين استحدثوا “ديوان النوروز” للاحتفاظ بسجلات تتضمن أسماء مقدمي الهدايا وأوصاف الهدايا، والتي كانت من بينها القصائد.
ويحفل الشعر بالعديد من الشواهد على تبادل “هدايا النوروز” في الدولة العباسية، حيث برز أحمد بن يوسف الكاتب، الذي كان وزيراً للخليفة المأمون، والذي يقول محتفلاً بالعيد وما يتخلله من تبادل للهدايا:
أسعد بشربك في النوروز مصطحباً… لا زلت تلقى من الأيام ما صلحا
لازلت تلقى من الأيام صالحة… تبقي السرور وتنفي الهمّ والترحا
إني لا أستصغر لدنيا بأجمعها… هدية لك إلا الشكرَ والمدحَا
غير أن ما يميز “شعر النوروز” في عصر الدولة العباسية تغليب المضامين الجمالية التي تصف الاحتفال بالعيد، وتضفي على المناسبة أبعاداً فلسفية ترتبط بعودة الربيع وتغير الأجواء والمناخ وما يتركه ذلك من مشاعر، وما أدل على ذلك من قول البحتري في قصيدته واصفاً الربيع وجماله:
أتاكَ الربيع الطلقُ يختال ضاحكًا … من الحُسن حتى كاد أن يتكلَّما
وقد نبَّه النيروز في غسقِ الدُّجى … أوائل ورد كُنَّ بالأمس نُوما
وما قاله الشاعر أحمد بن محمد العنبري، في وصف النوروز:
أقبل النيروز إقبال … عروس تتكسر
واكتسى الروض ثياباً … بين ورد ومعصفر
وصفا الجو صفاء … الهنداوني المذكر
وعلى خطى شعراء الدولة العباسية، سار شعراء الأندلس في التغني بالعيد مع أفضلية تتمثل بجمال الطبيعة في الأندلسية التي أضفت على “قصائد النوروز” عذوبة أكبر حتى وإن جاءت في غالبيها في سياق المدح والتهنئة بالعيد.
وقد أبدع ابن شهد الأندلسي في وصف العيد وما يصاحبه من عودة الربيع وانبعاث الحياة من جديد، عندما أنشد:
وأَتاكَ بالنَّيْرُوزِ شَوْقٌ حافِز … وتَطَلُّعٌ للزَّوْر غِبَّ تَطلعِ
وافاكَ في زَمَن عَجِيبٍ مُونِقٍ … وأَتاكَ في زَهْرٍ كَرِيمٍ مُمْتِعِ
فانظُر إِلى حُسْن الرَّبِيعِ وقَدْ جَلَتْ … عن ثَوْبِ نَوْرٍ للربِيعِ مُجَزَّعِ
فكأَنَّ نَرْجِسَهَا وقَد حَشَدَتْ به … زهْرُ النُّجُومِ تقارَبَتْ في مَطْلَعِ