من فرعون موسى؟ ولماذا لا يبحث المصريون عن هويته؟
ردنا – “قد ثبت كما يقول القرآن أن بدن فرعون الخروج قد نجا. أيا كان هذا الفرعون فإنه اليوم في صالة المومياوات الملكية بالمتحف المصري في القاهرة، ميسرة رؤيته للزائرين”.
هذه الكلمات كتبها العالم والطبيب الفرنسي الشهير موريس بوكاي، المتوفى سنة 1998، في كتابه “الكتاب المقدس والقرآن والعلم” وهو من القلائل الذين واتتهم الفرصة لفحص اثنتين من مومياوات أهم وأشهر فراعنة مصر (رمسيس الثاني، وابنه مرنبتاح) اللذين انتهت بحوث تاريخية وآثارية عديدة إلى أن “فرعون الخروج” ليس إلا واحدا منهما.
كان بوكاي اسما بارزا ضمن مجموعتين من العلماء، إحداهما تولت فحص مومياء مرنبتاح في مصر بين عامي 1974 و1975، والأخرى فحصت مومياء رمسيس الثاني في فرنسا حيث نقلت إلى هناك في رحلة شهيرة عام 1976.
وحاليا، تستضيف باريس فرعون مصر من جديد، فقد أقامت من أجله معرض “رمسيس الكبير وذهب الفراعنة” الفترة من السابع من أبريل/نيسان حتى السادس من سبتمبر/أيلول 2023، لإلقاء الضوء على رمسيس الثاني -الذي يلقب بالكبير- وتلك الحقبة من تاريخ مصر.
وهذه المرة لم تُنقل مومياء الفرعون، وإنما نقلت تابوته فقط فارغا، ضمن أكثر من 180 قطعة أثرية تحكي “تاريخه الملحمي”.
رحلة المومياء
أما الرحلة الوحيدة للمومياء نفسها قبل نحو 50 عاما، فكانت حدثا مشهودا في فرنسا حيث أقيمت مراسم استقبال رسمية، تابعها الفرنسيون بحماس على التلفزيون الوطني.
ووصلت المومياء على متن طائرة عسكرية فرنسية نقلتها من القاهرة، وكان في استقبالها وحدة من القوات الجوية وأخرى من الحرس الجمهوري، وأدى الجنود تحية السلاح للفرعون، تماما كما يؤدونها للزعماء الأجانب الزائرين.
وكان الطبيب الفرنسي بوكاي أول من اقترح هذه الرحلة، فقد كان يجري دراسات في مصر العام السابق، تتعلق بخروج موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل، وكان يحاول التوصل إلى سبب وفاة الفرعون.
وبعد حصوله على إذن بفحص مومياء رمسيس الثاني عن قرب، اكتشف بوكاي أن جزءا منها قد تضرر جراء إصابة غامضة بالفطريات -وفق ما ذكره الجانب الفرنسي- واقترح على المصريين أن يقوم علماء فرنسا بعلاج المومياء لكن اقتراحه لم يجد تجاوبا.
حينئذ أخذ الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان على عاتقه جلب المومياء، فتوجه إلى القاهرة لمقابلة نظيره المصري محمد أنور السادات في ديسمبر/كانون الأول 1975، وعرض عليه المساعدة في علاج المومياء، وفقا لما وثقته صحيفة نيويورك تايمز (The New York Times) في تقرير بتاريخ 28 سبتمبر/أيلول 1976.
وبعد أن نقلت المومياء وقام بوكاي وعلماء آخرون بفحصها فحصا دقيقا يضاف إلى البحوث التي أجراها سابقا على مومياء مرنبتاح، صار لدى الطبيب الفرنسي إيمان عميق بصدق الخبر الذي انفرد القرآن بذكره وهو نجاة “فرعون موسى” ببدنه، وذلك لأن قصة الخروج وردت أيضا في العهد القديم لكن من دون هذا الخبر.
ورغم أهمية الدراسات التي أنجزها بوكاي وآخرون ممن استدلوا بقرائن تاريخية وأثرية عديدة، فضلا عن نتائج الفحص الطبي والمخبري للمومياوات، فإن استنتاجاتهم بشأن حقيقة الشخصية -التي ربما تكون أشهر- طاغية في التاريخ لا تكاد تجد صدى في واقع مصر المعاصرة.
مفارقة في مصر
يعد رمسيس الثاني من أهم حكام مصر على مر عصورها، وقد يكون أشهر الفراعنة قاطبة. ورغم مضي أكثر من 3 آلاف سنة على موته، لا يزال اسمه يتردد بقوة في حاضر البلاد، كما لا يزال محتفظا برمزية كبيرة لدى الدولة المصرية في الناحية السياسية والعسكرية.
وتحمل واحدة من أشهر الساحات العامة في مصر اسم الفرعون، وهي “ميدان رمسيس” وسط القاهرة الذي توسطه تمثاله الشهير على مدى أكثر من 50 سنة، قبل أن يتم نقله إلى المتحف المصري الكبير بمنطقة أهرامات الجيزة.
وكان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر قد قرر عام 1955 وضع التمثال -المكتشف عام 1820- في “ميدان باب الحديد” بالقاهرة، ليصبح اسمه لاحقا “ميدان رمسيس”.
وفي الإرث التاريخي والمعماري، لا تزال المعابد والأبنية التي شيدت في حقبة رمسيس الثاني من أهم المواقع والآثار التي تحتفي بها الدولة وتروج لزيارتها.
وقد شيّد رمسيس الثاني المعبدين الشهيرين، الكبير والصغير، جنوبي مصر، فيما يعرف بموقع أبو سمبل، المدرج في قائمة التراث العالمي، لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو).
وفي واجهة المعبد الكبير -الذي كان في الأصل منحوتا في الجبل- توجد 4 تماثيل ضخمة، جميعها تمثل رمسيس الثاني جالسا على العرش، وقد انهار النصف الأعلى من أحد هذه التماثيل جراء أحد الزلازل.
وكاد المعبد أن يغرق بسبب مشروع بناء السد العالي في أسوان، لولا أن منظمة اليونسكو قادت مشروعا غير مسبوق -اكتمل عام 1968- لنقل المعبد إلى موقعه الحالي، بعد قطع أحجاره وتفكيكها ثم إعادة تركيبها.
ويحتضن المعبد حدثا بارزا في التقويم السياحي المصري، وهو تعامد الشمس على وجه الفرعون. وكانت هذه الظاهرة تتكرر يومي 21 فبراير/شباط و21 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، وبعد نقل المعبد صارت تحدث في 22 فبراير/شباط.
فقد أقيم البناء بحيث تصل أشعة الشمس إلى “قدس أقداس” المعبد في عمق الجبل، لتضيء وجوه 3 تماثيل للآلهة المصرية القديمة من بينها رمسيس الثاني بصفته “الفرعون المؤله”.
أما في العسكرية المصرية، فلا تزال معركة قادش التي خاضها رمسيس الثاني ضد الحيثيين قبل أكثر من 1200 سنة قبل الميلاد موضع فخر وتمجيد باعتبارها من أعظم الانتصارات في مصر القديمة بل وفي تاريخ العالم أجمع.
وقد سُجلت صور من هذه المعركة التي دارت أحداثها في قادش بالقرب من حمص في سوريا -والتي أفضت لاحقا إلى أقدم معاهدة سلام في التاريخ- على جدران المعابد في طول مصر وعرضها.
ويذهب العديد من المؤرخين اليوم إلى أن هذه المعركة التي صورت على أنها إنجاز عسكري كبير لم تنته بانتصار واضح لأي من الطرفين اللذين تكبد كلاهما خسائر فادحة، خلافا لما تصوره الجداريات المصرية ومن بينها الصورة الشهيرة لرمسيس الثاني وهو يرمي بسهم من فوق عجلته الحربية.
أما في الحاضر، فالفرعون يطل على المصريين كل يوم، من خلال صورته المطبوعة على بعض العملات الورقية، إذ تحمل ورقة الجنيه الواحد على أحد وجهيها صورة التماثيل الأربعة لرمسيس الثاني في أبو سمبل، أما الوجه الآخر فعليه صورة جامع السلطان قايتباي في منطقة الروضة بمصر القديمة.
وكذلك ورقة الخمسين قرشا (نصف جنيه) عليها صورة رمسيس الثاني حاملا صولجانه، وعلى الوجه الآخر صورة الجامع الأزهر.
وكل هذه المظاهر المنتشرة في واقع المصريين وثقافتهم وإعلامهم صارت مألوفة وعادية، غير أنها نادرا ما تلفت الانتباه.
لكنها استُحضرت بقوة في حدث كبير متلفز وضع المصريين أمام حصاد سنين من محاولات تشكيل الوعي.
فقد نظمت الدولة في الثالث من أبريل/نيسان 2021 ما عرف بـ “موكب المومياوات الملكية” الذي حظي بمتابعة جماهيرية واسعة داخل مصر وخارجها.
ونقلت مومياوات 22 من ملوك وملكات مصر ومن بينهم رمسيس الثاني وابنه في موكب مهيب شق طريقه في شوارع القاهرة ابتداء من المتحف المصري بميدان التحرير -حيث قضت المومياوات زهاء 100 عام- وصولا إلى مثواها الجديد بالمتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط
وأقيم الموكب بإخراج فني ضخم وفي حضور كبار قادة الدولة، وفي ختامه أطلق حرس الشرف 21 طلقة من المدفعية تحية للملوك الفراعنة، تماما كما لو كانوا زعماء على قيد الحياة يجري استقبالهم وفق الأعراف الرسمية.
جذور الحالة الفرعونية
وهذه الظواهر الثقافية والسياسية -في مجملها- تثير التساؤل عن الظروف التي نمت فيها هذه النزعة نحو الماضي الفرعوني ورموزه.
ويُعتقد أن جذور هذه الحالة ترجع إلى الفترة التي أرسيت فيها أسس الدولة القُطرية في عشرينيات القرن الماضي حيث اشتعلت جذوة القومية المصرية، بالتزامن مع إعلان وفاة دولة الخلافة العثمانية.
وبالإمكان تلمس هذه التحولات الفكرية والثقافية في كتابات طائفة من المفكرين والسياسيين البارزين تلك الفترة، من أمثال طه حسين وأحمد لطفي السيد ومصطفى كامل وغيرهم.
ومما ساعد على ذلك حدوث طفرة الاكتشافات الأثرية الفرعونية أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين، حيث اكتشفت مقابر عديدة وعثر على مومياوات الفراعنة. وللمفارقة فإن جل هذه الاكتشافات كانت على أيدي الأوروبيين الذين جاؤوا مع الاستعمار.
ومن اللافت مثلا ما كتبه المؤرخ المصري والوزير السابق عبد الرحمن الرافعي، المتوفى سنة 1966، عن رمسيس الثاني، وما نسبه إليه من المناقب ومن حسن السياسة، رغم أنه لا دليل على ذلك.
ويقول الرافعي في كتابه “تاريخ الحركة القومية في مصر القديمة: من فجر التاريخ إلى الفتح العربي” الصادر عام 1963: كان رمسيس يعامل العمال الذين اشتغلوا في إقامة هذه المباني الضخمة معاملة إنسانية نعموا خلالها برغد العيش، وعاشت طبقات الشعب في عهده عيشة رخاء.
وعن تمثاله الذي نقل إلى ميدان باب الحديد آنذاك، يقول “فصار هذا التمثال رمزا لعظمة مصر القديمة، يشاهده القادمون إلى العاصمة من داخل القطر وخارجه. وإن في إقامته في هذا المكان تكريما وتقديرا لرمسيس العظيم”.
ويقول عن أمجاده في البناء “إنها منشآت ضخمة شيدها رمسيس الثاني في مناطق عديدة بالوجه القبلي والوجه البحري، والنوبة. ولا يوجد ملك من ملوك مصر له مثل هذا العدد من العمائر الشاهقة، ولعلها كانت ولم تزل السبب في ذيوع اسمه ورفعة شأنه بين ملوك مصر قاطبة”.
البحث عن الفرعون
هذه المكانة التي رُفع إليها الفرعون في التاريخ الوطني والخطاب السياسي لم تترك مجالا واسعا للبحث والتساؤل عن هويته الحقيقية، وعن مدى ارتباطه بالقصة الشهيرة التي أخبر بها القرآن الكريم.
فمن ناحية، لم يحدث أن أقيم مشروع وطني لفحص الآثار التي تعود لهذه الحقبة والوقوف على أهميتها ودلالتها في ضوء قصة موسى (عليه السلام).
كما لم تطلع على الرأي العام بيانات وافية عن مومياوات فراعنة تلك الحقبة وما قد تنطوي عليه من أدلة وقرائن قد ترجح بعض الاستنتاجات على غيرها، وإن كانت الجهات الرسمية تؤكد أن دراسات هامة أجريت في هذا الجانب.
فقد عكف الخبراء على “المشروع المصري لدراسة المومياوات الملكية” بدءا من عام 2009 وفقا لما صرح به عالم الآثار المصري ووزير الدولة السابق لشؤون الآثار الدكتور زاهي حواس الذي دعا مرارا -في لقاءات إعلامية ومقالات- إلى عدم “الخلط بين الدين والآثار”.
وربما يضيق المجال العام في مصر بالحديث عن هذه المسألة والخوض فيها، سواء في الإعلام أو المحافل الثقافية.
وتبقى هذه الحالة رهينة الغموض، وقد تفسرها أحيانا دعاوى عدة، من بينها إبعاد الدين عن الدراسات الآثارية، ومنها أيضا الخوف من “مؤامرات غربية” يقول المحذرون منها إنها تروج لكون رمسيس الثاني هو “فرعون الخروج” لتوظيف هذا الاستنتاج في خدمة أهداف إسرائيل والحركة الصهيونية على حساب مصر.
وقد ظهرت حساسية هذه المسألة أكثر من مرة، من بينها السجال الذي وقع في مايو/أيار 2020 بين حواس ومفتي الديار المصرية السابق الشيخ علي جمعة الذي ذكر في برنامج على شاشة التلفزيون الرسمي أن الدراسات التي أجريت على جسد رمسيس الثاني توصلت إلى أنه مات غرقا.
وعلى الفور انبرى عدد من الأثريين المصريين للرد على المفتي، من بينهم حواس الذي أكد أن رمسيس الثاني ليس “فرعون الخروج” ورأى أن “العلم يقول إنه من المستحيل عن طريق دراسة وتحليل المومياء معرفة هل غرق الملك رمسيس الثاني أم لا”.
ويقول حواس إن كل ما يثار عن هوية “فرعون” الذي عاصر نبي الله موسى عليه السلام ما هي إلا “اجتهادات لا تمت للعلم بصلة، ولذلك لا بد أن نفصل بين ما كتب في الكتب السماوية والآثار” وفقا لما كتبه في مقال بصحيفة “المصري اليوم” بتاريخ 19 مايو/أيار 2020.
لكن هذا القول -الذي يتبناه حواس وعدد من الأثريين المصريين- يرفضه آخرون في مصر وخارجها.
وخلافا لأولئك الداعين لعدم “الخلط بين الدين والآثار” هناك طائفة من العلماء المصريين الذين اهتموا بالبحث عن هوية “فرعون موسى” وأنجزوا دراسات هامة بهذا الباب، ولعل أبرزهم المؤرخ وعالم المصريات الدكتور محمد بيومي مهران المتوفى سنة 2008، فضلا عن كثير من العلماء الغربيين.
ومهما تكن آراء هذا الفريق أو ذاك، فمن المنطقي التساؤل عن الأسباب التي تحول دون سبر أغوار هذه المسألة على أهميتها، والنزوع بدلا من ذلك إلى اعتماد رواية واحدة تجعل فراعنة تلك الحقبة مدعاة فخر وطني، رغم ما قد يسببه ذلك من صدام مع عقائد المصريين، مسلمين كانوا أم مسيحيين.
من “فرعون موسى”؟
بالنظر إلى كثير من البحوث التاريخية والآثارية التي اهتمت بالإجابة عن سؤال: من “فرعون موسى”؟ ربما يكون من الأصلح طرح السؤال بصيغة أخرى: من فرعون الخروج الذي مات غرقا؟
وذلك لأن المؤرخين وعلماء المصريات انقسموا إلى فريقين، أحدهما يرى أن موسى (عليه السلام) لم يعاصر إلا فرعونا واحدا طويل العمر، والآخر يرى أنه عاصر فرعونين: فرعون التسخير الذي اضطهد بني إسرائيل ثم خليفته فرعون الخروج الذي لاحقهم أثناء خروجهم من مصر.
ومن القائلين بوجود فرعونين في هذه القصة، العالم الفرنسي بوكاي وقبله العالم السويسري إدوارد نافيل المتوفى سنة 1926. وفي مصر، المؤرخ الأزهري الشيخ عبد الوهاب النجار المتوفى سنة 1941، علاوة على الدكتور مهران.
وذهب هذا الفريق إلى أن فرعون التسخير هو رمسيس الثاني (تولى الحكم وفق أحد الأقوال بين 1290- 1224 قبل الميلاد) وأن ابنه وخليفته (مرنبتاح) هو فرعون الخروج (تولى الحكم بين 1224 – 1214 قبل الميلاد) معتمدين على جملة من الأدلة التاريخية، وعلى نتائج الفحص الطبي والمخبري لمومياء كل منهما.
ويقول المتخصص في الأديان المقارنة والمذاهب المعاصرة الدكتور سامي عامري في كتابه “براهين النبوة والرد على اعتراضات المستشرقين والمنصرين” إن بوكاي قدم بيانات علمية بالغة الأهمية بهذا الشأن لم تأخذ حظها من العناية من المتخصصين.
وأشار إلى أن الفحص الطبي لمومياء مرنبتاح تم بين عامي 1974 و1975 بمشاركة أطباء مصريين، وأن بوكاي استُقدم من فرنسا باعتباره أحد أهم المتخصصين في الطب الشرعي لبحث فرضية موت هذا الفرعون بفعل ارتداد الأمواج عليه والغرق في البحر.
ونشر بوكاي نتائج الفحص في كتابه “مومياوات الفراعنة.. الأبحاث الطبية المعاصرة” الذي نال عنه جائزة الأكاديمية الفرنسية والأكاديمية الوطنية للطب في بلاده.
وأشار إلى وجود فجوات في الصدر والرأس وأسفل الظهر في مومياء مرنبتاح نتيجة “صدمة خارجية” ليستنتج بعد استبعاد فرضيات عدة أن هذه الصدمة التي أودت بحياته كانت بفعل انطباق البحر عليه.
ومن الأدلة التي ساقها هذا الفريق، أيضا، ما يعرف بـ “لوح مرنبتاح” أو “لوح إسرائيل” الذي يُعتقد أنه يتضمن أقدم إشارة لإسرائيل في النصوص التاريخية من غير المخطوطات اليهودية والمسيحية، وقد عثر عليه عام 1896 وهو محفوظ في المتحف المصري بالقاهرة.
ويسجل اللوح حروب الفرعون وانتصاراته المزعومة، وقد جاء فيه “الأمراء منبطحون يصرخون طالبين الرحمة، وليس من بين الأقواس التسعة من يرفع رأسه، الخراب للتحنو، بلاد خاتي هادئة، وكنعان قد استلبت في قسوة، وأخذت عقلان، وقبض على جازر، وصارت ينوعام كأن لم يكن لها وجود، وإسرائيل قد ضاعت وأزيلت بذرتها، وأصبحت خارو أرملة”.
ورأى العلماء في هذا دليلا على أن خروج بني إسرائيل كان في عهد مرنبتاح الذي مات بعد أن حكم مصر 10 سنوات فقط، خلفا لأبيه الذي حكم قرابة 70 عاما.
وقد ورد اسم إسرائيل في النص مقترنا برمز لغوي مصري يدل على قوم من الأقوام وليس دولة أو أرضا أجنبية، خلافا لبقية أعداء الفرعون، وهو ما رآه الباحثون دليلا على أن إسرائيل كانت لا تزال قبيلة أو مجموعة قبائل ولم تكن بعد مثل الأقوام الأخرى التي استوطنت أراضي لفترة طويلة.
ومن جملة الأدلة أيضا، ما توصل إليه عالم الآثار المصري أحمد عبد الحميد يوسف بشأن وسائل التعذيب في زمن الفرعون.
فقد وجد أن أحد النصوص في معبد عمدا في النوبة -ويرجع إلى السنة الرابعة من عهد مرنبتاح- يؤكد أن الفرعون عذب الناس بالصلب وبقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وهو ما يوافق ما أخبر به القرآن الكريم عن طريقة تعذيب فرعون للسحرة، ولا سيما أن القرآن انفرد بذكر إيمانهم عقب المواجهة التي جرت بينهم وبين موسى (عليه السلام).
فرعون واحد
غير أن فريقا آخر من العلماء ذهب إلى أن فرعون الخروج إنما هو رمسيس الثاني، ومن أشهرهم الأميركي وليام أولبرايت، المتوفى سنة 1971، والألماني أوتو أيسفلت، المتوفى سنة 1973، والأميركي ميريل أونجر، المتوفى سنة 1980، وكذلك الباحث العراقي لؤي فتوحي.
ويرى هذا الفريق أن رمسيس الثاني هو من قام بتسخير بني إسرائيل واضطهادهم، وهو نفسه من لاحقهم عند خروجهم من مصر.
وينطلقون ابتداء مما جاء في العهد القديم “فجعلوا عليهم (أي بني إسرائيل) رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس (رمسيس)”.
وقد دلت الحفائر -كما يقول الدكتور مهران- على أن المدينة الأولى قد أعيد بناؤها، وأن الثانية قد أنشئت في عهد رمسيس الثاني، وأن “الإشارة إلى المدينتين في سفر الخروج لا يمكن أن تكون مصادفة، لأن ذلك إنما يتطابق مع كل ما نعرفه من المصادر الأخرى عن إقامة بني إسرائيل في مصر”.
ويرى الدكتور لؤي فتوحي أن (حقيقة) الفرعون الوحيد -الذي حكم مدة طويلة خلال الألف الثاني قبل الميلاد تتفق مع أحداث التسخير والخروج الواردة بالنص القرآني- هو رمسيس الثاني.
ومهما تكن هوية الفرعون الطاغية الذي جاء ذكره في القرآن، فإن قصته قد انطوت على الكثير من المعاني والأسرار التي لم يتكشف بعضها إلا بعد مرور أكثر من 1200 سنة على نزول القرآن.
وفي هذا يقول الدكتور مهران “كل الفراعين الذين دارت حولهم روايات تاريخ الخروج، وأيهم (فرعون موسى) من أمثال أحمس الأول وتحتمس الثالث وأمنحتب الثاني وتوت عنخ آمون ورمسيس الثاني ومرنبتاح وسيتي الثاني، قد اكتشفت جثثهم، وفي هذا إعجاز للقرآن ما بعده إعجاز”.