القرآن الكريم وتكريم الإنسان.. تمهيد لنهوض حضاري متين

أكد القرآن الكريم أن الإنسان مخلوق كريم على الله، فقد خلق آدم بيديه، ونفخ فيه من روحه، وجعله في الأرض خليفة، تكريما للإنسان، وجاء ذلك في حوار بديع، قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30].

 

الإنسان محور الرسالات السماوية

إن الإنسان هو المقصود غاية وهدفا في ابتعاث الرسل، واختيار الأنبياء، وإنزال الكتب والصحف، وإن الله سبحانه وتعالى الذي جعل آدم خليفة في الأرض، اقتضت حكمته ومشيئته ورحمته بالإنسان ألا يخلقه عبثا، وألا يتركه سدى، وإنما تكفل بهدايته وإرشاده، وأخذ بيده إلى الطريق الأقوم، والمنهج الأمثل، وطمأنه منذ استقراره في الأرض أنه لن يدعه طعاما سائغا لوساوس الشيطان، ولن يتركه نهبا للوهم، والخبط، والضلال، والشهوات، ولن يسلمه للجهالة والحيرة والضياع، وإنما أكرمه بالهداية والرشاد بالتي هي أقوم، قال تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 38]. وقال تعالى: {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 123 ـ 124].

وهكذا توالت الرسل، وتتابع الأنبياء، وأنزلت الكتب، وكلها تدور على محور واحد، هو الإنسان، بما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، وجاءت الشرائع لتأمين مصالح الناس بجلب النفع لهم، ودفع المضار عنهم، فترشدهم إلى الخير، وتهديهم إلى سواء السبيل، وتدلهم على البر، وتأخذ بيدهم إلى الهدى القويم، وتكشف لهم طريق الخير، وتحذرهم من الغواية والشر. (حقوق الإنسان، الدكتور محمد الزحيلي ص 21).

وجاءت الشريعة لتحصيل المصالح وتكميلهـا، وتقليل المفاسد وتعطيلها، فإن الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح، أو لدرء المفاسد. (مجموع الفتاوى 20/48).

 

تكليف الملائكة بالسجود لآدم

ولم يقتصر الأمر الإلهي باختيار الإنسان خليفة في الأرض، بل تأكد ذلك في السماء والجنات العلا، واقترن بالفعل والتطبيق، وأعلن الله تعالى ذلك في الملأ الأعلى بإرادته عن خلق آدم، واتخاذه خليفة، وسجّل ذلك في اللوح المحفوظ، وأنزله وحيا يتلى على البشر، ثم أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم تعظيما، واحتراما له؛ لأن الإرادة الإلهية تعلقت باختياره، فقال تعالى: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين} [ص: 71 ـ 74]. وقال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين} [الحجر: 28 ـ 31].

وكرر القرآن الكريم هذا الأمر، وهذه القصة في عدة سور قرآنية لتذكير الإنسان بفضل الله تعالى أولا، وليعرف مكانته من الوجود والكون ثانيا، وليحذره من غواية إبليس ثالثا. (حقوق الإنسان، الدكتور محمد الزحيلي ص، 28).

 

تفضيل الإنسان عن سائر المخلوقات

صرح القرآن الكريم بهذا التفضيل والتكريم، قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} [الإسراء: 70].

 

تسخير ما في الكون للإنسان

قال تعالى: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} [لقمان: 20].

وصرح القرآن الكريم بأن الله تعالى خلق الأنعام، وملّكها للإنسان، ثم ذللها له للركوب، والأكل، والمنافع، والمشارب، قال تعالى: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون * ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون} [يس: 71 ـ 73].

ووجّه القرآن الكريم الإنسان إلى البحث في الكون، والتعرف على خواصه وأسراره، والانتفاع به في الحياة.

فقال تعالى عن الثروة المائية: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} [النحل: 14]. وقال تعالى: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأنعام: 141].

وقال تعالى عن الثروة الحيوانية: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم * والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} [النحل: 5 ـ 8].

وقال تعالى عن الثروة الصناعية: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} [الحديد: 25]. وقال تعالى: {وألنّا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدّر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير} [سبأ: 10 ـ 11].

إن الإنسان كائن قابل للترقي في سلم الإنسانية في اتجاه الملائكة، كما أنه قابل للتسفل إلى نظير الحيوان، وبما أعطي من عقل مميز وإرادة حرة يملك حرية المضي في كلا الاتجاهين، غير أن الوحي جاء يرشده إلى طرق الترقي، وينهاه عن الأخرى، وليس ذاك إلا ترقيا حضاريا في ذات الإنسان.


علي الصلابي
مؤرخ ومفكر سياسي ليبي
مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.