قراءة في مفهوم التصوف المسيحي وأبعاده التاريخية

يتكون كتاب “مقدمة في التصوف المسيحي”، An Introduction to Christan Mysticism (صدر بالإنجليزية في الولايات المتحددة الأميركية عام 2008، ترجمه كرم عباس إلى العربية حديثاً وصدر عن المركز القومي المصري للترجمة)، من مسودات محاضرات ألقاها الراهب الكاثوليكي البنديكتي توماس ميرتون خلال دورة تعليمية في مجال اللاهوت الصوفي. وتضمنت تلك الدورة 22 محاضرة، بواقع محاضرتين في الأسبوع، من 1 مارس (آذار) إلى 15 مايو (أيار) 1961، وتلاها عدد آخر من المحاضرات في صيف العام نفسه. وحرر باتريك أوكونيل تلك المخطوطات. أضاف عدداً ضخماً من الحواشي بجانب مقدمة تفصيلية.

وميرتون هو راهب كاثوليكي بندكتي ولد في عام 1915 وقضى طفولته ما بين فرنسا وإيطاليا وإنجلترا، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية، ويعد أحد أهم الكتاب الروحيين في القرن العشرين، علماً أنه حصل على درجة الماجستير من جامعة كولومبيا. وتعود شهرته في المقام الأول إلى انخراطه في دراسات مقارنة الأديان، فهو أحد الرواد المعاصرين في فتح مساحات للحوار الديني بين المسيحية الغربية من جانب والتراث الروحي الشرقي من جانب آخر.

وصنف ميرتون هذه المسودات قبل ما يقرب من عقدين على ظهور المجلد الأول للطبعة الرسولية (نسبة إلى بولس الرسول) “كلاسيكيات الروحانية الغربية”، وقبل جيل من نشر برنارد ماكغين المجلد الأول من تاريخه الضخم في الموضوع ذاته.

وكما لاحظ أوكونيل، فإنه بفضل مهارات ميرتون اللغوية – وقد اعتمد بشكل كبير على المصادر الفرنكفونية بجانب القليل المتاح له في مكتبة غتسماني – فإنه قد لجأ إلى النصوص الأصلية كلما كان ذلك متاحاً، وتجنب بحكمة مستنقع المناقشات الكاثوليكية المستحدثة التي كانت شائعة في أوائل القرن العشرين حول طبيعة كل من اللاهوت النسكي واللاهوت الصوفي والتمييز بينهما.

وتعتبر هذه المسودات، كما يقول لورانس كنينغهام في تصديره للكتاب، بمثابة مستوى تأسيسي لفهم ما يقف وراء أعمال أخرى مكتملة مثل “الإنسان ليس جزيرة منعزلة”، و”أفكار في العزلة”، و”بذور جديدة للتأمل”، إضافة إلى عديد من مقالات ميرتون في الحياة الروحية. ويظهر أثر هذه المسودات واضحاً في هذه الأعمال.

وإضافة إلى ذلك فإنه بجانب النثر الشفاف لأعماله الكلاسيكية في الحياة الروحية، فإن هناك تنوعاً هائلاً في المصادر، ومن الواضح أن هذا المجلد هو مثال على العودة إلى الأصول، كما أنه يكشف لنا عن التطور الفكري والروحي لميرتون، وهذا ليس مستغرباً بما أنه كان في حوار فكري أثناء تدريسه هذه الدورة مع فون بالتاسار ودانيلو وليكليرك، اللذين هما أستاذا التعويل على الأصول.

 

دراسة نقدية

ومن جانبه أضاف المترجم مقدمة أخرى تمثل دراسة نقدية لموضوع الكتاب، وعدداً آخر من الحواشي، ومعجماً لمصطلحات التصوف المسيحي. والكتاب في مجمله هو موسوعة شاملة للمصطلحات الصوفية، وللمتصوفة، وللنصوص التكوينية في التراث الصوفي المسيحي. وهي موسوعة في العمق، بقدر ما هي في الأفق، فقد كان ميرتون يكتب عن التصوف كتجربة معيشة وليس كمحض موضوع معرفي أكاديمي. ويعول ميرتون في محاضراته على النصوص التكوينية في تراث الفكر المسيحي، فحسب. وهي المهمة التي ستظل في نظره غير مكتملة لضخامتها – بل هدف أيضاً إلى توسيع وتعميق الرؤى ووجهات النظر حول اللاهوت الصوفي داخل النسق الرهبني. ومن ثم يمكن النظر إلى الكتاب بوصفه إعادة إحياء للتراث الصوفي المسيحي القديم بلغة معاصرة ربما تسهم في فهم مشترك لطبيعة الخبرة الصوفية والحياة التأملية. وهي تجربة محفوفة بالأخطار بطبيعة الحال، نظراً إلى إمكانية انحراف الفهم وسوء التأويل أمام طبيعة هذا التراث الباطني الغامض، شديد التعقيد، والصعوبة.

ويرفض ميرتون الفصل بين التراث الصوفي من جانب والتراث الأخلاقي والعقائدي من جانب آخر، فيقول “إن التراث الصوفي الهائل لا ينفصل عن التراث الأخلاقي والعقائدي لكنهم يشكلون معاً كلاً واحداً، فمن دون الصوفية ليس هناك لاهوت حقيقي، ومن دون اللاهوت ليست هناك صوفية حقيقية، لذلك فإن تأكيد الصوفية هو ذاته تأكيد للاهوت… وربما يعتقد البعض أنه يكفي دخول الدير لعيش النظام، ولكن الأمر أكثر من ذلك بكثير، فلا بد أن نعيش اللاهوت بشكل كامل، وبعمق، في شموليته ومن دون هذا الأمر فليس ثمة قداسة، ففصل اللاهوت عن الروحانية هو أمر كارثي”.

 

بين الجسدي والروحي

يؤمن ميرتون بأنه لا ضرورة للتسليم الحرفي بالاستشهاد الجسدي، بل يجب إعادة تقديم هذا النموذج في أية حياة روحية مسيحية حقيقية، أو كما يوجزها أن ما اختبره كل شهيد جسدياً يجب أن يختبره كل مسيحي روحياً. أما الموت النسكي والصوفي (الفناء) فلا بد أن يعيد إنتاج ما هو أكثر جوهرية في موت الشهيد، التحلل الفعلي من اتحاد النفس والجسد ليس من “ماهية” هذا الموت للذات، ولكن هو التحرر الكامل من الرغبات الجسدية.

 

وبالعودة إلى جذور محاضرات ميرتون في التصوف المسيحي نجد أنه كانت هناك مراسلات بينه وبين رئيسه في الدير جيمس فوكس بين 1949 و1951، وقد نشرت هذه المراسلات لاحقاً في “مدرسة المحبة”، وهو مجلد يجمع مراسلات ميرتون مع أصحاب التوجهات الدينية في شتى أنحاء العالم. وتتناول المراسلات تأملاته في إصلاح وتجديد الحياة الرهبانية والإرشاد الروحي، وقد قام باتريك هارت بتحرير الكتاب وتم نشره عام 1990.

وتشتمل المراسلات كما يقول كنينغهام على نقاش في غاية الأهمية حول أسلوب تعليم الرهبان، فقد شعر ميرتون أن المبتدئين من الرهبان الذين ينضمون إلى الدير إنما يتم تعليمهم وإعدادهم للكهنوت، بينما لا يوجد برنامج متسق ومتماسك خاص بالتكوين الرهباني.

وفي هذا الوقت كان يفترض أن الرهبان المرسومين سيستمرون نحو الكهانة، وكان لتعليمهم مسار دراسي حدده القانون الكنسي كشرط أساسي للرسامة، مع إرشادات في الرهبنة ضرورية لأجل هذا الغرض. ومن الواضح أن ميرتون قد رأى شيئاً ما غير متوازن بشكل جوهري في هذا النظام، لكنه لم يكن متأكداً من كيفية تصحيحه. وكما يظهر في واحدة من رسائله إلى جيمس فوكس فإنه يدرك أنه من الصعب إعلاء التعليم الرهباني على التعليم اللاهوتي، وكان الحل بالنسبة إليه كأستاذ أكاديمي، ثم كمعلم رهباني، هو أن يطور مقرر إرشادات للرهبان المبتدئين يندرج تحت مسمى عام وهو “التوجهات الرهبانية”.

ويعرف كرم عباس بتوماس ميرتون في المقدمة، فهو أحد أهم الكتاب الروحيين في القرن العشرين، وهو راهب ولاهوتي ومتصوف وشاعر وناشط اجتماعي وسياسي. صنفت كتاباته ضمن الأكثر مبيعاً في القرن الماضي، غير أن شهرته تعود في المقام الأول إلى انخراطه في دراسات مقارنة الأديان. فهو أحد الرواد المعاصرين في فتح مساحات للحوار الديني بين المسيحية الغربية من جانب، والتراث الديني الشرقي من جانب آخر. ورأى ميرتون أن المسيحية الغربية تخلت عن تراثها الصوفي لصالح النزوع الديكارتي نحو العقلانية، وأن اللاهوتيين أنفسهم باتوا في علاقة متوترة مع التصوف بوصفه خارج التقليد والنظام والعقلانية.

لهذا يؤكد ميرتون أنه لا بد من معالجة هذا الخلل التاريخي الذي أصاب الحضارة الغربية، من طريق إعادة إحياء التراث الصوفي المسيحي بلغة معاصرة يمكن أن تسهم في فهم مشترك لطبيعة التجربة الدينية، وللحياة التأملية بشكل عام. ‎ويضيف كرم عباس: “إن التراث الصوفي المسيحي الهائل لا ينفصل عن التراث الأخلاقي والعقائدي، فهم يشكلون معاً كلاً واحداً. فمن دون الصوفية ليس هناك لاهوت حقيقي، ومن دون اللاهوت ليست هناك صوفية حقيقية. لذلك فإن تأكيد الصوفية هو في ذاته تأكيد للاهوت.

إن التجربة الصوفية في عموميتها لا تقوم على معرفة، وليست ربيبة التعلم أو التفسير أو التأويل أو التحليل أو الجدل أو خلافه. فهي غير قابلة لأن تكون محل نقاش أو حجاج ديني أو فلسفي، لأنها في الأساس ليست موضوعاً لمعرفة معينة يمكن تصنيفها بأنها صحيحة أو باطلة، صادقة أو كاذبة.

فالتجربة الصوفية هي حالة خاصة من الحب، “يحترق” فيها المتصوف، بما يحبه وفيه ومعه. وما دمنا لم نحترق مثله فإننا لا نملك إثباتاً أو إنكاراً، وعلى رغم كل محاولات التعبير تظل اللغة مستعبدة وعاجزة.


علي عطا
مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.