تكامل الذكر والأنثى في الحياة.. دراسة في نقد الإتجاهات الشاذة الحديثة (1)

إنّ أحد الأسس الفطرية المهمة للحياة الإنسانية والنوع الإنساني هو التنوع البشري الرائع المنقسم إلى الذكر والأنثى، وتكاملهما في هذه الحياة من خلال الاقتران الزوجي الأسري، وتوزيع اقتضاءات الأسرة على الجنسين وفق الملاءمات الفطرية مع تكونهما الجسدي والنفسي والسلوكي ومشاركتهما إنجاب الأولاد.

إلا أنّ هذا الأساس تعرض في العصر الحاضر لتحد خطير من خلال اتجاهات ونظريات متعددة انتشر تسويقها باسم العلم والأدوات العلمية.

 

ومن أبرز تلك النظريات نظريتان:

1- نظرية تحور معنى الذكورة والأنوثة وهما أمران معروفان للإنسان منذ نشأة الإنسانية بادعاء أنهما لا يتمثلان في التنوع الفطري الجسدي والوظيفي والنفسي والسلوكي للإنسان، بل هما يعبّران عن انطباع الإنسان عن نفسه.

فإذا رأى الذكر جسديا أنه أنثى كانت هويته أنثى سواء احتفظ بخصائصه الجسدية الذكرية، أم سعى إلى تغييرها، فله أن يتأنثّ ويظهر ويتصرف ويتزوج كأنثى تماما ويكون بين الإناث في اجتماعهن، وعلى الأسرة والمجتمع أن يتقبله ويتعامل معه كذلك رغم خصائصه الذكرية الكاملة، وكذلك الحال في الانثى!

بل يجوز أن يختار الشخص أن يكون ذكرا وأنثى في آن واحد، أو يكون حالة وسطى بمزيج من المظاهر والسلوكيات الذكورية والأنثوية حسبما يشاء!

وقد عبّر عن مورد الانطباع المغاير للجسد عن الذات بالتحول الجنسي، كما عبّر منذ حين عن الهوية التي يختارها الشخص لنفسه سواء كان موافقا لجسده أ م لا بالنوع الاجتماعي.

 

تحدي الإنسانية

2- نظرية أخرى تنقض تكامل الذكر والأنثى في الحياة كما تقتضيه الفطرة الإنسانية بادعاء أنّ الميول الشاذة (المماثلة) هي ميول طبيعية، وأنّ الاقتران الشاذ بالمماثل يمثل خيارا للزواج على حد زواج الذكر والأنثى!

فهاتان نظريتان تبّران السلوكيات والاقترانات والميول الشاذة، وتعتبرها أمورا طبيعية وخيارات مقبولة ومشروعة على حد الخيار السائد في المجتمع البشري من تمايز الجنسين وتكاملهما في الحياة.

وقد حدثت هاتان النظريتان في هذا العصر في بعض الأوساط العلمية على أساس أنهما من جملة معطيات العلم الحديث!

ومن الملفت أنه يجري تسويقهما ثقافيا واجتماعيا بقوة واندفاع بالغ في المجتمعات البشرية من خلال جميع الإمكانات المتاحة المحلية والدولية من الجوانب المالية والقانونية والسياسية والإعلامية والثقافية والتربوية.

والواقع أنّ هذه النظريات تمثل انتكاسة كبيرة في الفكر الإنساني المعاصر، بل تقهقر غريب لما يطرح باسم العلم وعجز كبير عن رصد البديهيات الفطرية الإنسانية التي يدركها عامة العقلاء الراشدين وفق ما يجدون بوجدانهم ويشهدونه بالخبرة العامة، وقد وقع من قبل التنكّر لمبادئ بديهية أخرى باسم العلوم الإنسانية.

كما أنّ تسويقها في المجتمع الانساني عمليا يمثل تحديا خطيرا للإنسانية في أحد أهم ركائزها وبناها في وجودها وديمومتها وقيمها وأخلاقها ونظمها الأسري والاجتماعي.

 

مبادئ تكامل الذكر والأنثى

وهذه دراسة موجزة تتضمن توضيح تكامل الذكر والأنثى في الحياة وفق القواعد العامة الراشدة للتفكير المبنية على مبادئ خمسة:

1- الإدراك السليم.

2- الفطرة الإنسانية الجسدية والوظيفية.

3- الفطرة النفسية والسلوكية.

4- الضمير الإنساني الذي يمثل الهدي الملائم للإنسان ويحدد ما يحسن وما يقبح منه.

5- الحكمة الصائبة التي ترعى الصالح الإنساني.

هذا مع دراسة الموضوع وفق هذه المبادئ في المستوى الفطري، وفي المستوى العلمي المعتمد على العلوم ذات العلاقة بهذه المبادئ، من جهة وجود أبعاد للموضوع ذات علاقة بكل واحد من هذه المبادئ الخمسة.

كما تضمنت الدراسة توضيح بداهة هذا المبدأ نعني التكامل بين الجنسين في الدين بداهة بالغة لا مزيد عليها، فإنه ملء تعاليم الدين ونصوصه في ذِكْر الذكر والأنثى وأحكامهما، على أنّ الدين يتضمن التأكيد على أنّ هذا التكامل مطابق مع المبادئ الفطرية والأخلاقية والحكمية.

وكنت قد أعددت دراسة أكثر تفصيلا من بعض النواحي قبل ثلاث سنوات عندما بلغني استفحال هذه النظريات في أوساط الجاليات الإسلامية في بعض بلاد المهجر، وحدثت ظروف حالت دون إنهائها، وقد حدث في هذه الأيام سعي بليغ إلى نشر هذه الأفكار الخاطئة في داخل البلاد الاسلامية فاهتممت بإيجاز البحث مع بعض الإضافات ليكون أسهل تناولا.

وقد أعددت هذا البحث في الأصل لإلقائه كمحاضرات على طلبة الجامعات ولكن حالت الظروف عن إلقائها، ولذلك اكتفيت بنشره وذلك ليكون مذكِّرا لمن عُني بالتبصر في الموضوع وتحفيز معاني الرشد والفطرة والأخلاق والحكمة في المجتمع الإنساني بشكل عام وللمجتمع الديني على وجه خاص، وبالله التوفيق.

 

تمهيد

لقد تضمنت هذه الدراسة توضيح أمرين:

1- إنّ الذكورة والأنوثة اللتين تمثلان الهوية الجنسية في الإنسان ترتكز على الفوارق الجسدية الكاملة المعروفة بين الجنسين، وتترتب عليها الميول والمشاعر النفسية المستقيمة، والتي تؤثر بدورها في السلوك السليم والملائم، فالفوارق الجسدية ليست مظاهر محضة في الإنسان، بل هي تنوع ضارب في العمق الجسدي والنفسي للإنسان، وجزء من بنيته التي بني عليها، وراسم للسلوك السليم والحكيم والملائم للإنسان، فهذا هو معنى الذكورة والأنوثة بحسب إدراك العقل السليم وشهادة الفطرة التي فطر الإنسان عليها جسديا ونفسيا وأخلاقيا وبدلالة الحكمة التي تفرضها سنن الحياة الاجتماعية وبحسب معطيات العلوم ذات العلاقة جميعا مثل علم الأحياء وعلم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا).

 

النوع الاجتماعي

وهذا القسم من البحث يبيّن الخطأ الفاحش للغاية في افتراض هوية جنسية للإنسان على أساس شعوره عن نفسه ورغبته في تعامل الآخرين معه وإن كان متقاطعا مع وضعه الجسدي، ويفنّد الاتجاه المتجدد في الموضوع الذي فصل الهوية الجنسية للإنسان عن التكوين الجسدي واعتبّها أمرا طارئا وعارضا لأسباب ثانوية، وأنّها تابعة لانطباع الإنسان عن نفسه، وقد عبّر عن هذه الهوية المُفْترضة للإنسان بالنوع الاجتماعي(1)، كما عبِّر عن افتراض الإنسان لنفسه هوية جنسية على خلاف جسده بالتحول، ويراد به تحوّل الإنسان من الذكورة والأنوثة عن وضعه الجسدي سواء سعى إلى تغيير الوضع الجسدي من خلال العمليات الجراحية إلى ما يلائم انطباعه عن نفسه أم لا.

2- إنّ طبيعة الخلية الأسرية الإنسانية ـ وفق الفطرة المشهودة التي خلق عليه االإنسان جسدا ونفسا وأخلاقيا ووفق الحكمة الراشدة والدين الإلهي جميعا ـ مؤلفة من ذكر وأنثى، وعليه يكون الميل الغريزي المستقيم هو الميل إلى الجنس الآخر وليس إلى الجنس المماثل.

وهذا القسم من البحث يوضح الخطأ الفاحش في الميول والاقترانات المماثلة ويُفندّ الاتجاه المتجدد حديثا من القبول بهذه الاقترانات كضرب من الاقتران المشروع في الحياة على حد الاقتران الزوجي بين الذكر والأنثى.

وقد كان هذا الاتجاه الثاني مؤثرا في البناء على الاتجاه الأوّل بعض الشيء؛ لأنّ رغبة الشخص في افتراض هوية جنسية لنفسه على خلاف خصائصه الجسدية يبتني كثيرا على الميل الغريزي الشاذ إلى الجنس المماثل.

 

محاولات فصل السلوكيات الاجتماعية عن الفطرة

على أنّ فصل مطلق السلوكيات الاجتماعية بما فيها الزواج والاقتران الأسري عماّ فطر عليه الإنسان في الأبعاد الجسدية والوظيفية والنفسية والسلوكية يعني أنّ الاقتران بين الجنسين هو مجرد توجه اجتماعي غالب في الأعراف والتقاليد وليس نظما فطر عليه الجنسان، وهذا بطبيعته يعني مشروعية التوجه الغريزي إلى الجنس المماثل.

هذا وكان الموجب للاهتمام بهذا البحث كما أشرنا من قبل هو أنّ ثنائية الذكر والأنثى وتكامل أحدهما بالآخر واشتراكهما في تكوين الأسرة وما يتفرّع عليه من الإنجاب هي مسألة أساسية وعميقة وبالغة الأهمية في الحياة الإنسانية لأجل سلامتها واستقامتها ودوامها، وهذا الأمر جزء أساس في الحضارة والثقافة البشرية، كما أنّ ذلك من جملة ثوابت الدين الإلهي الجامع بين الرسالات كلها، وإنّ الاتجاهات الحديثة الخاطئة التي أشرنا إليها والتي تؤصّل للحالات غير المستقيمة لهي تلاعب خطير ذو آثار كارثية على تكوين الإنسان الجسدي والنفسي والأسري والاجتماعي وبنيته التي فطر عليها من غير حجة علمية حقيقية ولا مستند موضوعي بتاتا بعد التأمّل الجاد والجامع في مباني هذه الاتجاهات، كما أنهّ مصادمة للبديهة الدينية التي تتفق عليها الأديان والرسالات الإلهية التي جرت وأكدت على الفطرة الإنسانية في تكامل الرجل والأنثى.

وبذلك كان من الضروري إيضاح الموقف الراشد في الموضوع، وإثارة قواعد الفطرة ودفائن العقول ومبادئ الأخلاق والحكمة الراشدة في هذا الشأن..

وإنّي أشهد شهادة ناصح تأمّل المبتنيات العلمية المدعاة لهذه النظريات بجد مع ترو وأناة أنّ القانون الذي فطر عليه الإنسان وأودع في داخله وبُني عليه كيانه هو ما جرى عليه عامّة العقلاء ولا يزال عليه جمهورهم وفق استرسالهم الفطري من تكامل الرجل والمرأة في الحياة الأسرية.

 

اتجاهات حديثة بأوهام خاطئة

وأشهد أنّ الاتجاهات الحديثة البديلة أوهام خاطئة للغاية تشبثا بأمور واهنة وهي تنطلق في منطلقاتها من أسباب غير موضوعية وواهمة، وتستند إلى حجج تفتقر إلى الدقة في مناهج البحث والتحري ومفرداته جميعا.

ولست أنطلق في هذه الشهادة من عصبية ضيّقة أو مبادئ موروثة، أو مآرب خاصة ولا عن نية الإساءة إلى الآخرين بتاتا.

ولكني أشهد بذلك نصحا لله سبحانه الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى وفطر الإنسان على ذلك وسنّ سنتهما في عمق تكوين الإنسان وكان معنيا بالإنسان، ومحذرا له عن تغيير الخلق(2) بالوساوس والأوهام.

ونصحا للحقيقة والعلم في غاياته الراشدة من المعرفة الصائبة والفهم الصحيح للأمور، وصيانة للإنسان عن الغباء والشقاء.

وكذلك نصحا للإنسانية الكريمة التي بنيت في تكوينها الجسدي والنفسي وألهمت في عقلها الباطن وضميرها الأخلاقي بتكامل الذكر والأنثى، وذلك أداء لحق الوشائج الفطرية من وشيجة الأخوّة الإنسانية نفسها ثمّ سائر الوشائج القائمة من الأخوّة في الدين والقربى والعشرة والجوار والانتماء وغيرها.

ثم نصحا للدين الحق والرسالات الإلهية التي جاءت لتُثْير دفائن العقول وكوامن الفطرة ولتؤكد على المسيرة الراشدة والسليمة المبنيّة على التعقل والهدى حقا و التي أخذت على أهل العلم تبليغ الحق وإشاعة الرشد بالحكمة والموعظة الحسنة.

 

نقاء الفطرة

ولذلك كلّه فإنّ من وظيفة كلّ إنسان راشد أن يقي نفسه من الوقوع في هذه الاتجاهات الخاطئة ويحافظ على نقاء الفطرة وطهارتها في الاكتمال بين الرجل والمرأة، كما أنّ وظيفة الأسرة والمراكز التعليمية والمجتمع العام والدولة وأجهزتها جميعا السعي في تعليم الأطفال وتربيتهم وفق المبادئ الفطرية وتحفيز تلك المبادئ في نفوسهم بالطرق الملائمة وصيانة الأجيال من الانحراف الذميم والخاطئ.

وليس تعذر خلاص قلة ممن ابتلي بالانحراف عن الوجهة الفطرية من وساوسه تلك بالذي يبّرر بحال شرعنة الحالات الخاطئة وتأصيلها كخيار تعليمي وتربوي وقانوني، بجنب الاقتران الفطري المبني على تكامل الرجل والمرأة من خلال الزواج.

ومن الغريب للغاية أن يزعم أن المجتمع البشري منذ نشأته حتى هذا العصر اشتبه في أمر أساس مقوّم في الحياة وهو تحديد مناط الذكورة والأنوثة وظن خطأ أنّ الجانب الفطري الجسدي يستبطن الانطباعات والادعاءات المختلفة فهي أيضا أمور فطرية حتى تقدم علم النفس فاكتشف هذا الخطأ الذريع في أمر بنيوي ومفصل مهم من مفاصل الحياة الإنسانية المؤثر في عامة أبعادها الفردية والاجتماعية.

 

محاولات إلغاء معاني الأنوثة والرجولة

ويغلب الظن أنّ من الأسباب الأساسية في الاتجاهات الحديثة الخاطئة والآثمة والغاية التي ترمي إليها هي التسوية التامة بين الذكر والأنثى وإلغاء جميع الفوارق بالمقدار الممكن لينحصر الفرق بينهما في الجانب الجسدي المحسوس بعد تعريته عن أي معنى سلوكي ووظيفي واجتماعي تماما استشعارا للنقيصة من أي فرق آخر للمرأة عن الرجل! فألغيت معاني الأنوثة والرجولة وجُعلتا حالة معارة متاحة للرجل والمرأة.

 

المشاعر الفطرية في الأمور الجنسية

وبذلك أفرغت هذه الاتجاهات الذكورة والأنوثة عن محتواهما وعن دورهما، وتم تفكيكه ما إلى قطع متفرقة غير مترابطة بعد أن كانتا بحسب الفطرة كُلّا مترابطا في المستوى الجسدي والنفسي والوظيفي والأسري والاجتماعي، وتشوّه بذلك جسد الإنسان، وتكدرت نفسه وتفككت الأسرة الإنسانية، وساءت أحوال المجتمع ولا سيما الأطفال الذين هم الجيل الصاعد.

ولم يزل الأمر على أوّله بعدُ، ريثما تضع الأمور أوزارها وتظهر نتاجها عبر الأجيال القادمة، ولن يمكن إرجاع الأمور إلى نصابها في المجتمعات التي انزلقت بعد أن اتجه الناس إلى المسار الخاطئ، وتجذّر ذلك في الأعراف والثقافة الاجتماعية.

إنّ المرء ليجد بالتأمّل في الطروحات الحديثة أنّ كثيرا منها حقا قبيحة تشمئز منها النفس البشرية النقية بفطرتها وتستحي منها.

ولكن من المؤسف أن بعض الثقافات الحديثة قد انمحقت فيها المشاعر الفطرية في الأمور الجنسية مثل حسن العفاف وقبح العهر وتصرفات معيبة أخرى واستخف فيها بمشاعر إنسانية راقية مثل صفة الحياء والغيرة ونحوها.

ولذلك قد لا يجد المرء لغة مشتركة لمخاطبتها بالخطاب الوجداني المبني على هذه المعاني الفطرية الرائعة التي قدرت لها أدوار مناسبة ومؤثرة وأساسية في بنية الإنسان والمجتمع الإنساني.

وإني لأرى بصدق أنّ مثل هذه الاتجاهات لهي دون تحامل واهنة إلى حد السخف والغباء، وهي مهزلة من مهازل الفكر البشري التي حدثت باسم العلم الرصين والحرية المستحقة للإنسان وليست منهما في شيء، اللهم إلّا صورة مستعارة وتجميلا متكلفا.

 

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــ

(1) والمراد بالنوع الاجتماعي الذي يطلق في مقابل الجنس الجسدي البيولوجي كل شيء يتعلق بالذكورة والانوثة في الإنسان غير البعد الجسدي العيني بدء من انطباع الإنسان عن جنسه ومرورا بالميول والسلوكيات الغريزية وانتهاء بسائر السلوكيات والأدوار التي يقوم بها على أنها تلائم هذا الجنس أو ذاك كلها مما يتلقاه الإنسان من المجتمع، ولذلك فهي لا تزيد على أمور مكتسبة من خلال التربية الاجتماعية، ولا تنطلق من ذاته وداخله وجنسه الجسدي (البيولوجي).

ويُفرّع على هذا الأصل أمور ثلاثة:

1- إنّ شيئا من هذه الانطباعات والميول والسلوكيات والأدوار ليست فطرية بتاتا فلا موجب للالتزام والإلزام بها على أساس أنها الحالة الطبيعية والفطرية، كما لا يصح اعتبار التخلف عنها حالة مرضية وغير مستقيمة فلو أنّ الذكر جسديا رأى نفسه أنثى اجتماعيا وأراد أن يتزوج بذكر آخر على أنه أنثى ويتزيا ويتزين ويظهر كالإناث فإنه لا مانع من ذلك من المنظور الفطري بحسب افتراضهم.

2- كما أنهّ ينبغي أن يجوز ذلك كله قانونا للذكر جسديا وللأنثى في الدول كلها استنادا إلى مبدأ الحرية الشخصية في قانون حقوق الإنسان، وأي قانون يحدد ذلك ولو اعتمد على الدين والشريعة الإسلامية والأعراف الاجتماعية السائدة فإنّه لا بدّ من العمل على إلغائه لأنهّ ينافي المواثيق والاتفاقيات الدولية في حقوق الإنسان والمرأة.  وبناء على ذلك فإنّ من الضروري المساواة التامة بين الذكر والأنثى في القانون والتشريع في الحقوق والواجبات، لأنّ التفاوت بينهما جسدي محض ولا اقتضاءات فطرية له في شأن السلوك والأدوار والحقوق والواجبات.

3- إنّه لا بدّ من تمكين الأنثى كما الذكر من استيفاء حقوقه القانونية وإصلاح الأعراف الاجتماعية التي تحول دون وصول المرأة الى تلك الاستحقاقات من خلال العمل الثقافي والاجتماعي.

وبالنظر إلى هذا الأمر الثالث نرى أنه قد يفرع على نظرية النوع الاجتماعي الحاجة إلى إنصاف المرأة في دورها الاجتماعي وإحقاق ما يستحقها قانونا ورفع الحيف الاجتماعي عنها.

فهذه أمور ثلاثة تُفرع على نظرية النوع الاجتماعي.  والأمران الأولان يخالفان بديهة الدين والشريعة الإسلامية، من حيث القبول بانطباع الشخص عن جنسه على خلاف جسده والإذعان بالميول والاقترانات الشاذة، والتسوية بين الجنسين في الأ حكام الشخصية مثل الستر والحجاب والعدة وغير ذلك.

وأمّا الأمر الثالث فهو في حدّ نفسه وعلى إجماله لا يخالف الدين والتشريع الاسلامي، ولا يتفرع بالضرورة على نظرية النوع الاجتماعي، لأنه يدعو الى تمكين المرأة مما ثبت لها في التشريع، وإزاحة العوائق الاجتماعية دون ذلك، ولا يدعو الى تشريع مختلف كما هو الحال في الأمرين الأولين.

ولكن من الملاحظ وقوع الالتباس في شأن هذا المصطلح وسوء استخدامه في مقامات حساسة للغاية قد تكون له تبعات ثقافية وقانونية سلبية جدا، حيث أطلق النوع الاجتماعي على الرجل والمرأة بمعناهما العرفي، وتمّ  تغليب دلالة المصطلح على  إنصاف المرأة فحسب أو بتصوّر أنّ  مؤدى هذا المصطلح لا يزيد على إفادة ذلك، من غير التفات إلى عمق متبنيات مصطلح النوع الاجتماعي من نفي أي اقتضاء فطري للذكورة والأ نوثة الجسدية في شأن الهوية الجنسية والميول المقبولة والسلوكيات المشروعة والادوار الملائمة، ولا ما يقتضيه هذا المصطلح من تجويز الانطباعات والميول والسلوكيات الشاذة.

ومن جملة الموارد التي أطلق فيه هذا المصطلح على وجه غير دقيق:

1- نصوص قانونية وقرارات تشريعية وتنفيذية في بعض الدول الإسلامية كانت غايتها إنصاف المرأة بإيفاء حقوقها الشرعية الدستورية والقانونية فحسب، ولكنها استخدمت في التعبير عن ذلك مصطلح النوع الاجتماعي.

2- توقيع بعض الدول الإسلامية على اتفاقيات دولية وثنائية بمحورية هذا المصطلح، كانت غايتها من منظور تلك الدول الإسلامية إنصاف المرأة فحسب، بينما كان منظور الطرف الآخر هو المصطلح بجميع متبنياته ولوازمه.

3- أذونات صدرت من الدولة لمنظمات وجمعيات ومؤسسات تقوم بنشاطات على اساس مصطلح النوع الاجتماعي كان الغرض من الإذن أنصاف المرأة فحسب بينما استغلت تلك المنظمات الأذونات الصادرة للعمل وفق ما يعنيه مصطلح النوعي الاجتماعي وتثقيف الناس على أن الذكر والأنثى لا يختلفان إلا جسديا وأنّ كون الشخص امرأة أو رجلا ناشئ عن التربية الاجتماع فحسب، علما أن العديد من تلك المؤ سسات مرتبطة ماليا وثقافيا بمنظمات أجنبية تعمل على مبادئ هذا المصطلح بعمقه وليس على إنصاف المرأة بالمنظور المفهوم في البلاد الاسلامية.

إذن من المفروض تصحيح النصوص المتقدمة وأمثالها وإيضاح المراد بها على نحو مؤكّد كي لا يظن الإقرار فيها والالتزام من خلالها بالمعنى المصطلح وشرعية أبعاده المخالفة لثوابت الدين التي كان عدم مخالفتها شرطا دستوريا في صحة أي تشريع أو قرار أو تعليم، كما ينبغي تثقيف الناس على ما يعنيه هذا المفهوم من تجاوز قواعد الفطرة وثوابت الدين وأصول الثقافة الإسلامية والشرقية والعربية والاعراف المبنية عليها فلاحظ.

هذا وكون النوع الاجتماعي بالمعنى الذي ذكرناه أمر ظاهر وبديهي لمن اطلع على المصطلح، وفهمه فهما فنيا، وفق سياقات استعماله في هذا العصر وبيان معناه في مصادر الموضوع كافة، ولم يبن في معناه على انسباق ذهني ناشئ عن استعمالات غير دقيقة أو ارتكازات سائدة في بيئة الشخص.

ولا يتوقف ذلك على أن يكون متخصصا في علم النفس والاجتماع المعاصر، فمن البديهي أنهّ لا يراد به الرجل والمرأة وفق الخصائص الجسدية، ولذلك يعد النوع الاجتماعي لمن كان ذكرا ولكن يرى نفسه أنثى هو الأنوثة لا الذكورة، والنوع الاجتماعي لمن كان أنثى ولكن يرى نفسه ذكرا هو الذكورة لا الأنوثة، والنوع الاجتماعي لمن يرى نفسه ذكرا وأنثى في آن واحد هو ازدواج الهوية لا الذكورة محضا وإن كان ذكرا جسدا ولا الأنوثة محضا وإ ن كان جسدا أنثى.

ويكفي منبها على ذلك تأمّل معنى جملة (النوع الاجتماعي) وفهمه، فالتعبير بالنوع بدلا عن الجنس الذي يعبّر عن الذكر والأنثى إنّما كان ناظرا إلى أمر مختلف، كما أنّ توصيف النوع بالاجتماعي يعني أنّ هذا التنوع ليس أمرا فطريا بل هو أمر اجتماعي ناشئ عن التربية الاجتماعية والأعراف الموضوعة السائدة.

وقد يتساءل عن العلاقة بين النوع الاجتماعي بالمعنى المعروف الذي بيّناه وبين الاقتران الشاذ بالمماثل.  والجواب أنّ هناك علاقة بينهما فعلا، من وجهين:

1- أنّ الاقتران الشاذ بالمماثل يقع على وجهين:  الأوّل: أن يكون مع إذعان كل من المقترنين بجنسه، فهما مث لا ذكران ويريان أنفسهما ذكرين فعلا.

والثاني: أن يكون الاقتران الشاذ بالمماثل جسديا على أساس اعتقاد أحد الطرفين عن نفسه بخلاف جنسه، فيقترن ذكر يرى نفسه ذكرا  بذكر آخر يرى نفسه أنثى.  ومن الواضح أنّ الاقتران الشاذ في الوجه الثاني مبني على فكرة النوع الاجتماعي الذي يتضمن أنّ الهوية الجنسية للإنسان إنما تكون وفق انطباع الإنسان عن نفسه، وليس على أساس خصائصه الجسدية، فاقترن شخصان ذكران جسديا بعضهما ببعض على أساس أنّ أحدهما ذكر والآخر أنثى بحسب النوع الاجتماعي.

2- إنّ فكرة النوع الاجتماعي من حيث مبناها تعتمد على أنّ كل ما يتعلق بالجنس عدا البعد الجسدي هو أمر غير فطري، بل مكتسب من البيئة والتربية الاجتماعية، ويندرج في ذلك طبعا الميل الغريزي للإنسان إلى الجنس المخالف، فهذا الميل هو ميل مكتسب حسب التربية الاجتماعية، وليس الاقتضاء الفطري كما يراه جمهور العقلاء وذكره القرآن الكريم بقوله إنكارا على قوم لوط اصحاب الفعل الشاذ: ﴿أَتأَتوُنَ الذّكْرَانَ مِنَ الْعَالمَيِنَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ (سورة الشعراء: آية 165-166).

وعليه فلو أنّ الإنسان تربّى على الميل الشاذ إلى المماثل كان ذلك في حقه طبيعيا وسائغا كما هو الحال إذا كان على الميل المتعارف إلى الجنس المغاير، وكيف لا يكون الميل الشاذ إلى الجنس المماثل مقبولا وفق مبنى اتجاه النوع الاجتماعي الذي يرى مشروعية انطباع الانسان عن جنسه على خلاف جسده!

على أنّ هناك من يتوسع في إطلاق النوع الاجتماعي وما يرادفه في اللغات الاجنبية ويطلقه على مجموعة العناصر غير الجسدية المتعلقة بالذكورة والانوثة وهي اربعة:

1- انطباع الإنسان عن جنسه سواء كان على وفق جسده أم لا.

2- ميله إلى الجنس المخالف أو المماثل جسديا أو إليهما معا.

3- السلوك الغريزي الفعلي مع المخالف والمماثل أو معهما.

4- المظاهر والسلوكيات والأدوار التي يميل الشخص إليها مثل الزي والزينة وغير ذلك.

وعلى هذا المعنى فإنّ النوع الاجتماعي يتضمن التعبير عن التنوع في الميل والسلوك الغريزي.

وقد يطرح أنه متى كان المقصود بالنوع الاجتماعي الإشارة الى التنوع الجسدي إلى الأنثى (المرأة) والذكر (الرجل) دون المعنى المعروف فلا ضير في التعبير به، إذ لا ينبغي المشاحة في التعبير.

ولكن يلاحظ بشأن ذلك أنّ دقة التعبير مهمة في النصوص القانونية والاتفاقات الرسمية إذ يجري الاحتجاج بالمفهوم الفني، ولا يعتنى بدعوى التوسع والمسامحة في التعبير، وذلك أمر ظاهر ومعروف.

كما أنّ ذلك مهم من البعد الثقافي لأنهّ يكون مدخلا إلى تمرير أفكار خاطئة وخطيرة من حيث لا يحتسب المخاطبون، وهو من الأساليب الناعمة للتأثير على الآخرين وتزريقهم بالأفكار المقصودة من حيث لايشعرون، وقد نبه بعض علماء المنطق كالعلامة المظفر في مباحث التصورات إلى دور غموض المصطلحات والتعابير في التأثير في أفكار العامة وإثارة مشاعرهم في اتجاه المقصود من غير أن ينتبهوا إلى ذلك.

إذن دقة التعبير أمر مهم، ولكن لا ينبغي استغلال ذلك لغايات أخرى.

(2) إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَلَآَمُرَنهمُ فَلَيبَتِّكُن آَذَانَ الْأَنعَامِ وَلَآَمُرَه نهمُ فَلَيغَيِّرُهن خَلْقَ الله﴾ (سور ةالنساء: آية 119).


بقلم: السيد محمد باقر السيستاني
مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.