الإمام الرضا (ع) وأسلوبه الحضاري في الحوار بين الأديان

تعود كلمة الحوار من الناحية اللغوية إلى (الحَور) وهو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، والحور النقصان بعد الزيادة لأنه رجوع من حالٍ إلى حال، وفي الحديث الشريف: ” نعوذ بالله من الحور بعد الكور معناه من النقصان بعد الزيادة لأنه رجوع من حالٍ إلى حال واما التحاور فهو التجاوب: نقول كلمته فما حار لي جواباً، أي ما رد لي جواباً، وفي البلاغة حورته راجعته في الكلام وهو حسن الحوار، ويعني الحوار ايضاً المحاورة والمجاوبة ومراجعة المنطق والكلام في المخاطبة.

والحوار في الاصطلاح اللغوي نشاط عقلي ولفظي يقدم فيه المتحاورون الادلة والحجج والبراهين التي تبرر وجهات نظرهم بحرية تامة من أجل الوصول لحل مشكلة ما أو قضية خلافية، وبطبيعة الحال هنالك شروط خاصة للحوار لابد من توفرها وفي حالة عدم وجودها يتحول الحوار لسجال عقيم يختفي فيه الاعتراف بالآخر المختلف وللحوار فوائد جمة منها ما يصيب الفرد المحاور ومنها ما يعود بالنفع والفائدة على الفكرة التي يؤمن بها وينافح عنها، وهنالك جملة من أداب الحوار منها أن يعرف طرفي الحوار الموضوع الخاص بالحوار أصلاً، وأن يكون لدى طرفي الحوار القدرة على الاعتراف بالخطأ إذا ما جانبت الفكرة التي يحملها احدهما الصواب أو ابتعدت عن المنطق، وأن يتأدب كل طرف بآداب الحوار وان يتم اختيار الالفاظ المناسبة وقديماً قالت العرب: رأس الحكمة الفهم والتفهم والاصغاء للمتكلم، وهو ما يكسب المحاور صفة الحلم كما قال الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه:” عود اذنك حسن الاستماع ولا تصغِ إلى ما يزيد في صلاحك استماعه”.

وإنّ الحوار في مضمونه الفكريّ، لا يُمكن أن ينظر إليه بعده جزءاً من الحركة السياسيّة الاجتماعيّة الآنيّة، بل يمثّل آليّةً دائمةً للتّواصل الإنسانيّ، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.” وقد خصّ الله الإنسان من بين خلقه بهذه الميزة الفريدة، وهي ميزة التحادث والجدال، على قاعدة أنّ الغاية النهائيّة لمثل هذا النّوع من تبادل المخزونات الإنسانيّة، هي تحقيق الهدف الأمثل للإنسان على الأرض، ألا وهو خلافة الله تعالى.

والحوار هنا يمثّل حركةً في التواضع العلميّ والثقافيّ، ويعكس الشعور بالحاجة الدائمة إلى تطوير العلم، على هدى قوله تعالى: “وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً”، فلا يطغى الإنسان بالاستعلاء الفكري والثقافي، بل ينطلق دائماً من خلال ما ينتجه من خصوصيّته الفكريّة والثقافيّة، ليعرضه من عن طريق الحوار على فكر الآخرين وثقافتهم، كما يعرض فكر الآخرين وثقافتهم على ما أنتجه؛ ليكون الحوار آليّةً في تلاقح الأفكار وتطويرها، ووسيلةً من وسائل تنظيم حركة الخصوصيّات الفكريّة والثقافيّة في رحلة البحث عن الحقيقة، كما قال تعالى: “وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ” بمعنى ان الحوار لا يقوم على ذوبان الخصوصية في الاخر ولا يقوم في الوقت ذاته على السعي لإجبار الاخر على القبول بما اؤمن وأعتقد به.

ولقد برزت الحاجة للحوار في تاريخ الفقه الاسلامي بعد أن تداخلت عوامل عديدة في نشوء مذاهب واتجاهات مختلفة في الفقه وعلم الكلام والفلسفة ساعدت السلطة على ترويجها بغية اكتساب الشرعية ولقد بدأت ومنذ عهد معاوية بن ابي سفيان مقولة الجبر ونفي الاختيار على سبيل المثال بغية عدم مساءلة الحكام على جرائرهم ومحاسبتهم على ما اقترفوه بحجة ان ما يفعلوه قدر مكتوب على العباد وهذا يعني تداخل العامل السياسي في رسم تصورات دينية اكتسبت قدراً من الشرعية بفعل مباركة الحاكمين، ومن ثم استمر مثل هذا التداخل بين تأثير السلطة وتسخير جملة من المتكلمين والفقهاء لإثبات أحقية الحكام المتسلطين على الخلافة ومقارعة مدرسة اهل البيت عليهم السلام بحججٍ من القرآن الكريم ومن الاحاديث الموضوعة لتبرير الجبر وضرورة اطاعة الحاكم وعدم محاسبته، ومن ثمَّ كان ذلك يعني تغييباً لفكرة الامة الوسط، والامة الشاهدة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله.

ولم يكن الموقف من معتنقي الاديان الاخرى إلا شكلاً من أشكال تمثل النهج القرآني في مدرسة اهل البيت عليهم السلام ومن ثمَّ كان تطوير الية الحوار معهم بمثابة استمرار للتفاعل الايجابي والذي يثري الفكر ويبين كيفية الدفاع عن المعتقد بطريقة علمية ومنهجية واضحة المعالم وسوف نبين ابتداء الكيفية التي نظرت بها مدرسة اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم للاختلاف والتنوع على الصعيد المذهبي و الديني.

لقد انطلقت المدرسة المحمدية العلوية من نصوص الشريعة المقدسة والتي تتعلق بأصل التنوع:” قوله تعالى في سورة النساء:”: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رجالا كثيرا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِه وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).

فحكم الله ان الاصل الانساني اصل واحد لان الاب واحد والرب واحد، ولقد منح الله الانسان اي انسان كرامة تبدأ منذ لحظة ولادته ولا تفارقه حتى اخر لحظة في حياته، وتجد الآية الكريمة من سورة الاسراء مصداقاً اخر لتكريم الله للإنسان بقوله تعالى: “(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا”.

وبين الشارع الالهي العلة الاساسية وراء اختلاف اعراق والوان البشرية وعدم انسجامها لغة وسكناً بعد أن بين الله جل وعز ان خلق جميع البشر كان من تراب:” ومن آياته ان خلقكم من تراب ثُم إذ أنتم بشرٌ تنتشرون” وفي ذات السورة: “(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ).

واذا ما كان هذا التنوع والتعدد هو الاصل فقد بين الله جل وعز الطريقة المثلى والمنهج الافضل للتعامل مع التنوع والاختلاف الانساني فورد في الآية الكريمة:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات. وهذا يعني ان الاختلاف والتنوع هو جعل الهي وهذا التنوع معياره الاساسي التقوى وليس هنالك تفاضل غير تقوى الله يمكن ان تميز به انساناً على انسان اخر.

وهذا يعني ان التنوع في نظر الاسلام كان هو الاصل وان التجانس والتماثل القسري امر يتنافى والفطرة الالهية، وهذا يعني ان التعصب القائم على التمييز لا مبرر ولا مسوغ له، ولم يكتف الاسلام والتشريعات القرآنية بالدعوة للاعتراف بالاختلاف وبحق الاخر في الوجود وممارسة الكينونة البيولوجية فقط بل امتد ليشمل حق الاخر في التعبير عن هذا الاختلاف بالوسائل المتاحة، ولعل ابرز هذه الوسائل التي وفرها قد تجلت باليات مثل اتباع القسط، العدل، الإنصاف، العفو، الصفح، إحقاق الحق، نفي الظلم، حسن الظن وما إلى ذلك؛ قال الله تعالى:‏ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

كما كان المجتمع الاسلامي الاول سواء في مكة أو المدينة يضم اناساً من مختلف الاعراق والقوميات والطبقات فكان هنالك الرومي والحبشي والفارسي، تظلهم الشريعة السمحاء بظلها وصاحب العصمة الكبرى صلوات الله وسلامه عليه برعايته وخلقه الالهي وهو القائل” كلكم لآدم وآدم من تراب” و”انا ولي من لا ولي له، وانا وليها من عربيها وأعجميها”.

واما الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه فقد ترك في عهده لمالك النخعي والمعروف بعهد الاشتر الوصايا التي تجمل طريقة التعامل مع الاخر المختلف فابتدأه بالقول:” وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكونّن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزّلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه”.

ولم تكن مدرسة الائمة من ال البيت صلوات الله وسلامه عليهم تسعى لان تفرض عقيدة معينة على الناس وإنْ تعلقت هذه العقيدة بالدين، وفي كل ما له صلة قريبة أو بعيدة بالوجدان الخالص وحياة الانسان الداخلية والتي تتصور وتتلون بألوان نابعة من الذات، ويأبى ان يفرض على احد من الناس أن يؤمن بما يؤمن به المسلمون ديناً، فالناس أحرار أن يؤمنوا بالله على ما يرون، وان يعتقد كل منهم على طريقته في الاعتقاد شرط أن لا يلحق ذلك الاذى بالجماعة، والخلق كلهم عيال الله. ويأبى الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أن يجعل الانسان الحكم الاول والاخير على تصرفات الخلق وهم لا يلحقون بك الاذى، فرب امرئ يُستصغر شأنه وهو أرفع منك شأناً وأوضح قوله صلوات الله وسلامه عليه منهجيته بهذا الشأن: “فلا تستصغرن عبداً من عبيد الله فربما يكون وليه وأنت لا تعلم”.

كما أدرك أئمة اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم طبيعة الحواجز النفسية التي تحول بين امرئ ما وبين اللقاء مع عقائد ومذاهب مغايرة لما ألفه ودرج عليه ومثل هذه الحواجز تحول بينه وبين الوصول لقناعات فكرية جديدة وذلك لشعوره بالخطر من امكانية تحدي قناعاته السابقة مما يؤدي به إلى رفض ذلك كله ولهذا سعى الائمة صلوات الله وسلامه عليهم إلى ايحاد حالة من الانسجام العفوي مع تعاليم الاسلام والتي يمارسها المسلم من غير تكلف، ومن دون ملاحظة لطبيعة المستوى الاجتماعي، ونلاحظ مثل هذه الحالة في قصة الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه مع رجل ذمي صاحبه في الطريق وابى الامام صلوات الله وسلامه عليه إلا ان يشيعه عند الفراق والتي اسفرت عن إسلام الرجل الذمي في نهاية المطاف.

لقد آمنت مدرسة الائمة من آل البيت صلوات الله وسلامه عليهم بأن طبيعة العلاقة بين أي انسان وانسان آخر تقوم أساساً على التعارف والحوار ولا تقوم ابداً على التخاصم والتنابذ وان الجهد الانساني المبذول من لدن كل طرف فضلاً عن تقواه هو ما يميزه عن الاخر وليس اي اعتبارات أخرى تقوم على القومية أو العرق أو القبيلة أو الانتماء الاجتماعي، أي أن التميز ليس في أساس الخلقة أو الدين واللون أو اللغة، كما تم التأكيد على اتباع المرونة في عرض الفكرة والرفق في تبيان مواضع الاختلاف ولقد قال الامام ابي عبد الله الصادق صلوات الله وسلامه عليه بهذا الشأن: “إن الله رفيق يحب الرفق، فمن رفقه بعباده تسلسله اضغانهم، ومضادتهم لهواهم وقلوبهم، ومن رفقه بهم إنه يدعهم على الامر يريد ازالتهم عنه، رفقاً بهم لكيلا يلقي عليهم عرى الايمان ومثاقلته جملة واحدة فيضعفوا”.

لقد تبنى ائمة اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم خطاً ومنهجاً موضوعياً في تبني آلية الحوار مع الاخر المختلف عقائديا أو مذهبياً منطلقين من مبدأين اسلاميين هما مبدأ العدل ومبدأ القوة، فمبدأ العدل يستند على ضرورة ان تعرض فكرة خصمك و وجهة نظره كما هي، فتعطيها حقها من الجوانب المشرقة والجوانب المظلمة، وبهذا يلتقي العدل مع الصدق، واما مبدأ القوة فقد عده الاسلام نقطة ارتكاز اساسي في واقع الدين، فقد وجد الائمة صلوات الله وسلامه عليهم انفسهم في موقع القوة الذاتية والتي تمكنهم من مجابهة ومجادلة العقائد الاخرى دون خوف أو وجل حتى وان امتلكت تلك العقائد المغايرة كماً من الجوانب الايجابية إذ قاموا بعرض مثل تلك الافكار بدقة جامعين بين الجوانب الايجابية والسلبية منها عارضين فيما بعد أفكارهم بذات المستوى من الدقة والامانة والاخلاص، مما زاد فيما بعد من ثقة المؤمنين الذين استمعوا لهذه المجادلات والحوارات وخفف من ثقة الخصوم بما يمتلكونه من عقائد واوحى لهم بقوة الموقف الذي ينطلق منه الائمة صلوات الله وسلامه عليهم.

وعلى هذا الاساس فقد انطلق الامام علي بن موسى الرضا صلوات الله وسلامه عليه من موقع قوة في حواره مع الاديان الاخرى ولم تكن هذه القوة متأتية من كونه ولياً للعهد فلم يكن هذا المنصب ليعني له شيئاً وانما كان مصدر قوته ثقته بربه وعقيدته والتي نهل نميرها من ابائه صلوات الله وسلامه عليهم.

ولعل من الضروري هنا وقبل الدخول في الاساليب التي اتبعها الامام علي بن موسى الرضا صلوات الله وسلامه عليه في الحوار مع زعماء الأديان والمذاهب الاخرى أن نتعرف على طبيعة العصر العباسي من الناحية الفكرية والدينية؛ إذ امتاز العصر العباسي بانتشار العلم، والانفتاح الفكري وتأسيس كثير من المكتبات والمدارس والانفتاح على الامم الاخرى نظراً لتسوع مساحة دولة الخلافة، وهو الامر الذي أدى إلى التداخل بين علماء الاديان المختلفة، وسعي كل دين لإثبات صحة معتقداته وأفكاره، كما تميز هذا العهد بوجود موجات عدة من الاتجاهات العقائدية والسياسية وظهور جملة من النحل والاتجاهات الفلسفية والتي كانت بمنأى عن الاتجاه الاسلامي ولقد تصارعت مثل هذه الاتجاهات والتيارات فيما بينها وأحدثت جملة من الهزات العقائدية والاجتماعية، وكانت النتيجة الطبيعية لمثل هذه التيارات وانفتاحها في قضايا الحوار والجدال مع الاديان والمذاهب الاخرى وهو الامر الذي فتح المجال واسعاً لعقد سلسلة من المناظرات والمحاورات وبرزت في خضم هذه المحاورات قضايا من مثل قضية خلق القرآن وصفات الخالق والقضاء والقدر.

واما من الناحية السياسية فقد كانت السلطة العباسية تواجه مأزقاً يتعلق بطبيعة نظامها السياسي ومقدار الشرعية التي يتمتع بها الماسكين بزمام السلطة ذلك ان الدعوة العباسية قد قامت في بادئ الامر على المطالبة بحق أهل البيت في الحكم طبقا لشعار الرضا من ال محمد ثم تنكرت بعد انتصار الدعوة لهذا الشعار وعملت أي السلطة على التنكيل بال البيت وقامت بمتابعتهم ومعاقبة مناصريهم واشياعهم. ولقد واجهت السلطة العباسية ومنذ عهد المنصور مأزقها الشرعي والمتمثل بسياسة قمع العلويين وبصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فضلا عن جانب استخدام المقولات الفكرية والفقهية في المسائل السياسية، مثل مقولة: الحق، والارث، والقرابة، والقرابة الخصيصة لبني العم وحقهم في الارث على حساب البنت.

ولقد استخدم الفقه والفكر والادب وعلم الكلام، في هذا الصراع السياسي وانشئت بعض الفرق الكلامية الوهمية لطرح بعض الافكار والمقولات المستخدمة في هذا الصراع. ولقد أثبتت التجارب التي خاضها النظام العباسي ان نتائج السياسة القمعية لم تقتصر على الفشل فقط وانما كانت تغذِ الاتجاهات الثورية الرافضة للحكم العباسي بمزيد من المبررات للانتشار والاستمرار.

ولهذا كانت هنالك ضرورة للخروج من ازمة الشرعية التي يعاني منها النظام العباسي والعمل على إكساب النظام قدرا من الحيوية والفاعلية والتي فقدها نتيجة الصراعات المحتدمة حول السلطة وكان أخرها قتل الاخ لأخيه، ولقد وجد المأمون أن افضل سبيل للخروج من هذا المأزق هو التلويح بإخراج الخلافة من البيت العباسي إلى البيت العلوي وذلك بإسناد ولاية العهد للإمام علي الرضا صلوات الله وسلامه عليه وذلك بعد أن رفض عرض الخلافة، على الرغم من ايمان الامام ان مثل هذا الامر لن يتم إلا انه قبل به بشروط منها عدم الامر والنهي والافتاء والقضاء، والولاية والعزل، وعدم تغيير ما هو قائم، إذ كان الامام صلوات الله وسلامه عليه يدرك جيداً طبيعة الشراك التي كانت تنصب في طريقه، وليس أقلها شأناً وخطراً محاولة ادخاله في جهازي حكم وادارة لم يشكلهما هو، ولا يتلاءمان مع توجهاته في الفكر، والسياسة والاخلاق.

لقد كان سعي المأمون منصباً على إكساب خلافته الشرعية وفي ذات الوقت تدعيم مركز اسرته والسعي لإخماد صوت ائمة اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم وبوسيلة جديدة هذه المرة وهي توهين مكانتهم في نفوس الامة ولقد حسب المأمون أن واحدة من هذه الوسائل إشراك الامام صلوات الله وسلامه عليه في مجادلات ومناظرات مع زعماء الاديان الاخرى بغية إحراجه والحال إن مثل هذه المناظرات كانت دليلاً قاطعاً على مدى العلمية التي يتمتع بها الامام صلوات الله وسلامه عليه فضلاً عن حجية وصحة الشرع الاسلامي عامة ومذهب اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم بشكل خاص.

ولقد دل الواقع التاريخي إن اتباع اسلوب المناظرة والمحاورة لم يكن غريباً عن الامام صلوات الله وسلامه عليه وكانت اولى مناظراته بعد توليه مقاليد الامامة إذ أشارت المصادر الى سفره من المدينة المنورة إلى البصرة ولقائه مع أتباع مذهب اهل البيت وغيرهم من زعماء المذاهب الاخرى وقد وجه خطابه بالقول:” يا قوم إن كان فيكم أحد يألف الاسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم” وقد تقدم أحد كبار علماء اليهودية بأسئلته للإمام صلوات الله وسلامه عليه بعد أن بين له الامام صلوات الله وسلامه عليه ما ورد في اسفار التوراة أ انه ابتدأ الحوار مع الاخر بما ألزم الاخر نفسه، ثم قصد الكوفة، وأجتمع اليه عدد كبير من العلماء والمتكلمين وضم المجلس علماء من اليهود والمسيحيين وقد بين في مستهل لقائه بهم الطريقة المثلى للمجادلة والحوار إذ قال:” أليس أنصف الناس من حاج خصمه بملته وكتابه وشريعته”. أي انه يستند إلى ما ألزم به المحاور نفسه من حجج وبراهين.

واما بعد إسناد منصب ولاية العهد فقد سعى المأمون لعقد سلسلة من المناظرات بين الامام صلوات الله وسلامه عليه وكبار رجال الدين من مختلف الاديان والمذاهب ولقد بينت هذه المناظرات جملة من النتائج التي كانت بالمحصلة قد أدت لتدعيم موقف الامام صلوات الله وسلامه عليه وتأكيد ما يتمتع به من علم غزيز والمام بأصول الكتب المقدسة لدى الاديان المختلفة والتي ناظر زعمائها ولقد أشر الباحث جملة من الخصائص المتعلقة بهذه المناظرات وهي:

 

  1. تُعد هذه المحاورات والمناظرات الاولى من نوعها على صعيد جمع كل من احبار الديانة اليهودية وكبار رجال الاكليروس المسيحي ورجال الدين من اتباع الديانة الزرادشتية وديانة الصابئة (ويبدو انها كانت صابئة حران ولم تكن المندائية) ورجال الدين من المانويين وبعض أرباب المقالات الفلسفية، ويقابلهم في المناظرة شخص واحد يعده الخليفة أعلم أهل الارض وهو ما كان يلقي قدراً من الروع في نفوس المجادلين وهو ما بدده الامام صلوات الله وسلامه عليه سريعاً إذ كان الهدف هو الوصول للحقيقة ودفع أي شبهة قد تلحق بالعقيدة الاسلامية.
  2. أتاح الامام صلوات الله وسلامه عليه بما حمل من خلق رباني ونبوي لمحاوريه ومجادليه مساحة كافية من الحرية في ابداء الرأي فيما يتعلق بمعتقداتهم وآرائهم والتي كانت تناقض العقيدة الاسلامية في ظل جو من الحرية لم يكن مألوفاً في تلك الحقبة التاريخية.
  3. لم تبدر من أطراف الحوار بحسب الروايات المعتمدة لهذه الحادثة التاريخية أي حالة من حالات التشنج في طرح الافكار والرد عليها أي مقارعة الحجة بالحجة ولقد دلت هذه المحاورات على قدرة عالية في الاستماع والانصات بدقة لما يطرحه الطرف المقابل من افكار ورؤى وهو الشرط الاساس لإنجاح أي حوار وجدل مع الاخر المختلف عقائدياً.
  4. سعى الامام الرضا صلوات الله وسلامه عليه من وراء هذه المحاورات إلى تبيان متانة الاصول التي تنهض عليها العقيدة الاسلامية وترك في ذات الوقت مدرسة متكاملة لكيفية إدارة الحوار القائم على الاحترام لشخص المحاور مهما كان الاختلاف العقائدي كبيراً.
  5. رسخت هذه المناظرات والمحاورات مبدأ قبول الآخر ومن ثمَّ إمكانية التعايش معه طبقاً لقاعدة الاحترام المتبادل لأسس الاختلاف والذي كان موجوداً في الاساسيات والفروع من العقيدة طبقاً لمبدأ (الامان في ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه واله وسلم وان لا يبدر للطرف الاخر بادرة يمكن أن يكرهها أو يخشى منها).
  1. دلت الحوارات على قدرة عميقة وأبعاد متنوعة في فهم الذات الالهية، والحركة والزمن والنطق والحلول والوجود، وصفات الله وأسمائه وكشفت مقدار تعظيم ائمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم بشكل عام والامام الرضا صلوات الله وسلامه عليه بشكلٍ خاص للأنبياء والمصلحين الروحيين انطلاقاً من رؤية اسلامية أصيلة وهي عدم التفرقة بين انبياء الله ورسله، وان الله جل وعز قد بعث لكل امة رسولا ومنذراً، وتعظيم الانبياء والرسل للأمم الاخرى يؤدي بالضرورة إلى تقبل الجماعات التي تؤمن برسالة هذا النبي أو الزعيم الروحي وامكانية التعايش معها حتى وان كانت عقائدها تخالف العقيدة الاسلامية.
  2. رسمت هذه المحاورات والمناظرات المنهجية الواضحة لدى مدرسة أهل البيت عليهم السلام ولدى اتباعهم في الكيفية التي يمكن عن طريقها الحوار مع الاخر المختلف وشكلت جزءا من تراث فاعل لا يزال حاضرا في تعامل المسلمين المنتمين لمدرسة اهل البيت عليهم السلام في ادارة حوارهم مع المنتمين للأديان الاخرى وفي انفتاحهم وتعرفهم على الموروث الديني والنصوص المقدسة لدى اتباع الاديان الاخرى.
  3. كشفت هذه المناظرات عن الدور الاساسي الذي يلعبه العقل كوسيلة من وسائل مخاطبة الاخر واداةٍ من ادوات الاقناع وذلك لان الحوار قام أصلاً على استنباط الحقائق عن طريق الفكرة ونقيضها وصولاً لنقطة التقاء، ولو لم يكن هنالك ايمان بالمنهج العقلي لما وجدت حاجة لإجراء حوار ومناظرة بين زعامات روحية مختلفة كما حصل بين الامام الرضا صلوات الله وسلامه عليه وزعماء الاديان الاخرى.
  4. رسخت هذه الحوارات والمناظرات بامتدادها التاريخي والذي يرجع للمدرسة المحمدية العلوية طابعا بقي موجودا لدى المدرسة وأتباعها حتى يومنا هذا وهو ان الجدل والحوار بداية الطريق لليقين وهو ما نشط الحركة العلمية في البقاع التي امنت بنهج وتعاليم ائمة اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم.
  5. جاءت اقامة هذه المناظرات بعد حقبة تكاد تكون طويلة نسبياً لم يكن فيها لائمة اهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم تماس كبير مع المحيط الخارجي والذي بدأ تتشكل ملامحه الفكرية نتيجة التلاقح الفكري بين حضارات وأديان مختلفة ولهذا كانت مثل هذه المحاورات بمثابة استجابة الجامعة المحمدية العلوية لطروحات العصر القائم على صعيد الفلسفة والاديان وتبديد الشكوك التي بدأ بعض المتكلمين والفلاسفة بطرحها بشأن العقيدة الاسلامية بمعنى ان المخرجات الخاصة بهذه المحاورات قد أدت إلى تمتين الهوية الاسلامية وترسيخ العقائد التي أرسى قواعدها الرسول الاكرم صلوات الله وسلامه عليه واله والائمة من أهل بيته وفي تفعيل الية الحوار والتعايش مع الاخر المختلف دينياً ومذهبياً.

علاء عبد الرزاق / كلية العلوم السياسية – جامعة بغداد

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.