النموذج الماليزي في الحكم بين الإسلامية والعلمانية (1)

مسجد السلطان صلاح الدين عبد العزيز (المسجد الأزرق) يقع في مدينة شاه عالم عاصمة ولاية سلاغور

يمثل النموذج الماليزي في المسألة العلمانية ونظام الحكم مادة ثرية وخصبة، لكونه يرتبط بعلاقة الدين والدولة في مجتمع إسلامي متعدد، في ظل أغلبية مسلمة، وهو أمر يتسم بالحساسية والدقة. ولكن من المهم الوقوف على بعض المعلومات الأساسية ذات العلاقة لدولة ماليزيا، قبل البدء في مناقشة النموذج، من تلك الزاوية.

فماليزيا مملكة دستورية، ذات نظام فدرالي، استقلت عام 1957م عن الاستعمار البريطاني، وعدد سكانها حسب آخر الإحصاءات التي جرت في 2017 م يتجاوز الـ32 مليونا، يتوزعون بين 3 قوميات رئيسة، وهي الملايو التي يختلف تقدير نسبتها بين 55% إلى 60%، بفعل عدة عوامل، وهم جميعا مسلمون، أما النسبة المتبقية تنقسم بين القوميتين الرئيستين الأخريين من الصينيين والهنود، بالإضافة إلى الأقليات الصغيرة.

وعلى الرغم من أن الملاويين المسلمين هم “أبناء البلد” الأصلي، على خلاف الصينيين والهنود الذين قدم أغلبهم في حقبة الاستعمار البريطاني، فإن نسبة الملاويين العددية، عند إعلان استقلال ماليزيا، لم تتجاوز نصف السكان تقريبا، أما الصينيون فقد شكلوا قوة عددية، وقوة في النفوذ الاقتصادي، إذ يتجاوز نفوذ الملايو المسلمين بأضعاف مضاعفة، مما دفع الحزب المسلم الحاكم “أمنو” UMNO للتحالف معهم.

وعادة ما يشيع في بعض الأدبيات السياسية أن الصيغة التي تضمن التعايش في المجتمع الماليزي هي الصيغة العلمانية “المعتدلة”، إذ حصر بعضهم مفهوم التعايش بين الفرقاء في الصيغة العلمانية وحدها، ونسي نماذج أخرى يأتي في مقدمتها النموذج الإسلامي الذي دشنه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في دولة المدينة ووثيقتها الشهيرة -على سبيل المثال- وتشهد له جملة النصوص القرآنية والنبوية القولية والعملية.

من المعطيات الهامة في النموذج الماليزي أن الدستور الماليزي تميز بمواد قل نظيرها في أي بلد آخر، إذ عرف الملايو بأنه “الشخص المسلم، الذي يتكلم لغة الملايو، ويمارس عاداتهم”، وبالتالي، فمن الناحية العملية لهذا التعريف القانوني، فإن كل الملايو مسلمون، وإن ابن الملايو الذي يترك الإسلام بالانتقال إلى دين آخر، لا يعد من الناحية القانونية منتميا إلى الملايو. وهذا يعني تداخلا بين ما هو ديني وبين ما هو قومي، بحيث حملت قومية الملايو صفة دينية. فكان الإسلام عنصرا حاسما في تحديد هويتهم. ووصف الدستور دين الدولة بأنه الإسلام، وعد ملك ماليزيا راعيا للإسلام في البلد، ومنع غير المسلمين من نشر دينهم وسط المسلمين، لكنه سمح لهم بنشره وسط غير المسلمين، إضافة إلى أنه سمح للمسلمين بنشر دينهم وسط غيرهم من أبناء الأديان الأخرى، وفوق كل ذلك فإنه ينص بصراحة في مادته الثالثة في الفقرة الأولى على أن “الإسلام هو دين الاتحاد مع ضمان ممارسة الأديان الأخرى بسلام، وتآلف في أي جزء من الاتحاد”.

والسؤال المركزي هنا: هل تنسجم النقاط التي سبق ذكرها مع أي مفهوم من مفاهيم العلمانية وأي نموذج من نماذجها المتباينة؟

 

  • حزب أمنو: قومي “علماني” أم وطني ” إسلامي”؟

تأسس حزب المنظمة الوطنية الملايوية المتحدة في 11 مايو/أيار 1946 من قبل السياسي الماليزي عون بن جعفر، ويعرف اختصارا بـ”أمنو” (UMNO)،  وبالنظر إلى فكرته وصيغته الأولى، فربما سارع بعضهم إلى تصنيفه حزبا “علمانيا”، أو أقرب إليه، مع أنه عرف نفسه بأنه ” حزب وطني ملايوي يتبنى الإسلام المعتدل، ويناضل من أجل التطلعات القومية لأبناء الملايو، وصيانة السيادة والهوية والثقافة الملاوية”. ويمكن وصفه بأنه من أحزاب يمين الوسط، ذات الأيديولوجيا المحافظة، ومن ثم فإنه لا يتبنى موقفا معاديا للدين، كما هو شأن العلمانية غالبا في المجتمعات العربية والإسلامية، ناهيك عن المجتمعات الغربية، إضافة إلى أنه لا يطالب بتنحية الدين جانبا في العمل السياسي وشؤون الدولة.

وإذا كان من التعسف والخفة معا وصف حزب أمنو بـ(الإسلامي)، بالمعنى المتعارف عليه في العمل السياسي، أي ذلك التنظيم أو تلك المؤسسة التي تتبنى المطالبة والنضال في سبيل تقديم  البديل الإسلامي المباشر في مختلف مجالات الحياة الحيوية، فإن ذلك لا يؤذن بوصفه بـ(العلماني) أيضا للسبب الآنف ذكره، خاصة حين نسترجع أن القومية الملايوية لا تعني ثنائية مع معتقد أبنائها، بل قوميتهم هي دينهم (الإسلام)، ودينهم هو قومتيهم، وبهذا يزول الالتباس الذي يرتبط عادة في أذهان بعض المسكونيين بالدولة القومية، وأن من أبرز لوازمها أنها على نقيض الدين، إذ يظنون أن من المحتم -تبعا لذلك- الفصل بين الدين والحياة السياسية والتشريعية وغيرها!

ومن هنا يمكننا القول: إن الحزب يتبنى الإسلام بشكل شامل من الناحية العملية كموروث قومي وحضاري، بوصفه حزبا ملايويا وطنيا قوميا معتدلا، ولا يُفرّق بين القومية والدين.

وفي هذا يحسن الاستشهاد بدراسة أحد الباحثين بعنوان “ماليزيا: تجربة الإسلام السياسي في الحكم” الصادرة في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2022م، إذ أولت وضعية الدولة الماليزية وائتلاف أمنو تركيزا خاصا، وقد ورد فيها معلومات عن (أمنو) ونظام الحكم:

“ولفهم تجربة الإسلام السياسي الماليزي، فلا بد من الإشارة إلى أن الدولة الماليزية وحزبها الحاكم (أمنو) طيلة 6 عقود لم يكونا بنى علمانية صرفة. فالدولة الماليزية ونظامها السياسي تأثرا بشكل مباشر بالأيديولوجيا الإسلامية الإصلاحية التي صاغت الهوية القومية الملايوية في أربعينيات القرن العشرين.

وكون حزب أمنو حزبا قوميا وكون القومية الملايوية قومية دينية بالضرورة- إذ يعرف الدستور الماليزي الشخص الملايوي بأنه شخص مسلم يتحدث اللغة الملايوية، ويمارس العادات والتقاليد الملايوية)، فإن مسار أمنو السياسي اقترن مبكرا بأجندة إسلامية تمثلت بالدفاع عن حقوق المسلمين والحفاظ على ثقافتهم.


أحمد محمد الدغشي

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.