الإساءة للأديان وجذورها في العصر الحديث: الأسباب والغايات

يعتقد البعض أن الإساءة للأديان، وبخاصة للدين الإسلامي، تندرج في سياق ردود الأفعال على العمليات الإرهابية التي استهدفت بعض المدن الغربية منذ 11 أيلول/سبتمبر 2001، ومجاهرة تنظيم “القاعدة” بمسؤوليته عنها. الأمر الذي أعطى تبريرات قانونية وإعلامية للحملات الدعائية المعادية للإسلام وأعطت شرعية ملحوظة لكل المنشورات والشعارات والمواقف المسيئة للإسلام.

وبالتالي فإن عبارة الإساءة للأديان، تستبطن تخصيص الإسلام من دون غيره من الأديان، إذ لا يُعقل أن تصدر قرارات أو قوانين دولية تعاقب كل من يتعمّد الإساءة للإسلام وحده.

ومع ذلك، فإن المطالبين بهذا الأمر لم يلقوا آذاناً صاغية، لا من حكومات ولا من مؤسسات دولية، ما يعني أن ظاهرة الإساءة للأديان، وبالتحديد الإسلام، ستبقى خاضعة لاعتبارات متنوعة تبدأ بحرية التعبير والإعلام وتغوص في متاهة المصالح والاستراتيجيات والايديولوجيات التي قررت توظيفها في سياق حاجتها إلى توجيه الرأي العام، الوجهة الداعمة لمواقفها وسياساتها تجاه العالم الإسلامي.

وتجدر الملاحظة هنا إلى أن تبرير الإساءة للإسلام يظهر وثيق الصلة بصورة “العدو” الذي ينبغي على الغرب مواجهته بعد الانتصار على النازية والشيوعية: الإسلام عامة والإرهاب الإسلامي بشكل خاص.

إذا وضعنا الملاحظة المذكورة في سياق العلاقات التاريخية التي وضعت العالمين الغربي والإسلامي بين حدّي المواجهة والتفاعل، فإن ظاهرة الإساءة للإسلام لا تشكّل استثناء أو حدثاً معاصراً، بقدر ما ترجع الى تقليد قديم، كان، باستمرار، يُغذّي عقلية غربية دأبت على تشويه صورة “الآخر” غير الغربي بما يتلاءم وشروط السيطرة عليه.

وسواء أكان هذا “الآخر” من السكان الأصليين في مرحلة الاستكشافات الكبرى، أم كان من أبناء المستعمرات في مرحلة الاستعمار، أو كان مسلماً تحصّن في هويّته الدينية في مواجهة السيطرة الخارجية، فإن هذا “الآخر” كان دائماً مادة للتوصيف والتشويه والإساءة وكل ما يساعد على إخضاعه لمشيئة الغرب ومصالحه السياسية والاقتصادية، ويبرّر تأييد الرأي العام الغربي لمواقف حكوماته تجاه الدول والمجتمعات والأديان والثقافات قيد الاخضاع والسيطرة.

وبهذا المعنى، فإن الرسوم الكاريكاتورية الساخرة من نبي الإسلام وحرق نسخة من القرآن الكريم وعرض فيلم رديء عن الرسول، وما سبقها ورافقها وأعقبها من منشورات وحملات دعائية وتحريف إعلامي ضد الإسلام والمسلمين، كلها أمور مألوفة ويجري استخدامها باستمرار.

وما يختلف فيها لا يتجاوز آليات إنتاجها وتعميمها بينما لا تتغيّر الأهداف الكامنة فيها، وهي كلها موصوفة بعدم قدرتها على مواجهة الوقائع بشكل علمي وموضوعي. إذ تتوجّه دائماً نحو الغرائز والردود الانفعالية أكثر مما تستدعي إشغال العقل والتفكير في واقعية المعلومات المراد تعميمها على الإسلام والمسلمين. وهي شبيهة بالصورة التي تمّ ترويجها عن السكان الأصليين في القارة الأميركية وعن الأفارقة والآسيويين. وإذا كان هناك مرجع يفسّر نشأة العنصرية ضد كل ما هو غير “غربي” أو غير “أبيض”، فإن هذه الصورة المسيئة والمشوّهة عن “الآخر” تُجسّد مرجع العنصرية ومربض خيلها ومصدر تجديدها وفداحة الحاجة إليها بما يخدم المصالح العليا للدول الراعية لها.

وعندما تكون ظاهرة الإساءة للأديان عامة والإسلام خاصة، ظاهرة مألوفة وتقليدية وليست راهنة أو ردّة فعل مؤقتة وعابرة، فإن المسألة تصبح أكثر حساسية وأهمية في حال مقارنتها مع منظومة القيم التي يزعم حماة هذه الظاهرة تأصلها فيهم: احترام حقوق الإنسان والديمقراطية والتنوّع الثقافي وحق الشعوب في تقرير مصيرها والتصرّف بثرواتها الطبيعية.

وتساعد المقاربة التاريخية لظاهرة الإساءة للإسلام في توضيح الغايات التي تتوارى خلف الأسباب المصطنعة، وفي إظهار التناقض بين ما يقوله الغرب عن نفسه وما يمارسه تجاه الآخرين، شعوباً ومعتقدات وثقافات وثروات. فالمقاربة التاريخية تؤكد عدم راهنية هذه الظاهرة وعقم محاولات تصويرها بما هي تعبير عن موقف فردي وخاص بصاحبه، أو تبريرها بالحق القانوني الذي يشرّع حرية الرأي والتعبير.

ذلك أن تواصلها التاريخي يكشف ارتباطها بالمصالح التي أعطتها سابقاً وتعطيها الآن شرعية وتبريراً. وفي حالة الإساءة للإسلام، تظهر واضحة العلاقة القائمة بين الصورة السلبية عن الإسلام والمصالح التي تغذّي هذه الصورة وتعمل على تنميطها وتعميمها.

وفي كل مرة كان فيها الغرب يعمل وفق استراتيجية سيطرة على العالم الإسلامي، كانت ظاهرة الإساءة والتشويه حاضرة بقوة في مقدمات وآليات وتفاصيل هذه الاستراتيجية. حدث هذا الأمر عندما قررت أوروبا استرجاع سيطرتها على الشرق الإسلامي بواسطة الحملات الصليبية، ويحدث الآن عندما قرّرت الولايات المتحدة إعادة تشكيل النظام العالمي بقيادتها، وما يتطلّبه هذا القرار من سيطرة أحادية على مصادر الطاقة والأسواق، وهي سيطرة لا يمكن تحقيقها من دون استتباع للدول صاحبة أكبر مخزون للنفط والغاز وأكثر الدول إنفاقاً على المشتريات الأميركية والأوروبية، وهي دول تنتمي في أغلبيتها إلى العالم الإسلامي.

 

جذور الإساءة المعاصرة

لا تحتاج نماذج الإساءة المعاصرة للإسلام إلى عرض تفاصيلها، فوسائل الاعلام وتقنيات الاتصال سهلّت رؤيتها. فقد شاهد كثيرون حول العالم مقاطع من الفيلم المسيء للرسول ومجمل الرسوم الكاريكاتورية الساخرة، وصولاً إلى مشهدية إحراق وتدنيس القرآن الكريم، والتي تنقلت في مدن الغرب خلال العقدين الأولين من هذا القرن قبل أن تحط رحالها في مدن السويد والدانمارك.

بيد أن ما تحتاجه الإساءة الراهنة هو التنقيب عن جذورها ومصادر إنتاجها، وتمويلها، وتعميمها، وحمايتها. وإذا كانت دوافع الإساءة القديمة محفورة في وقائع التاريخ ومفاعيل الحروب من أجل السيطرة، فإنها تملك قابلية تواصلها إلى اليوم. إذ لم تكن مجرد زلّة لغوية عبارة “الصليبية” في خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن حول بداية الحرب العالمية على “الإرهاب الإسلامي”.

ومع التشديد على وجود تأثير عميق للجذور التاريخية للإساءة المعاصرة، فإننا سنطوي صفحتها ونبحث عن الحاضنة الحالية التي منها تناسلت وشاعت وتحصّنت وتكررّت من دون حسيب أو رقيب ومن دون إدانة أو عقاب.

ترجع جذور الإساءة الراهنة الى الخطاب الغربي عامة والأميركي بشكل خاص، حول النظام العالمي الجديد الذي برزت ملامحه لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة والانتصار على الشيوعية. وبما أن الغرب قد ارتضى لنفسه نظاماً اقتصادياً يرتكز على حاجته للسيطرة على “الخارج” ونهب موارده واستهلاك عوائده، فإن مصالحه اشترطت فرض إرادته على المجتمعات الأخرى، والدول والشعوب والثقافات، أو مصادر الثروات ومواقع الأسواق والزبائن.

وهنا بالذات تكمن الجذور الحقيقية للإساءة للإسلام، حيث يندرج خطاب الانتصار النهائي لليبرالية التي حصر فرانسيس فوكوياما عقباتها في الإسلام والثقافات الآسيوية [1]، وحيث تنكشف أبعاد الخطاب الخاص بالصدام الحتمي بين الحضارات، الذي اختزله صموئيل هنتنغتون بصراع بين الغرب من جهة والإسلام والكونفوشيوسية، من جهة أخرى [2].

بهذا المعنى، خلق الغرب لنفسه عدواً أو أعداء لما بعد الانكسار الأيديولوجي للشيوعية. فالصورة التي انتشرت عن تهديد الإسلام المحتمل للنظام العالمي الجديد وللمصالح الغربية، لا تعبّر عن الواقع بقدر ما تعبّر عن هجوم وقائي. وبات مستقبل الغرب ونظامه العالمي مرهونين بقدرته على إلحاق الهزيمة بعدو لم يشهر عداوته تجاه الغرب، أكثر مما يخشى على حاضره ومستقبله من غرب يعيد تشكيل وعي الغربيين انطلاقاً من إسلام معاد رغم أنفه.

ومثلما برزت ممارسات أقلّوية، عابرة ومعزولة، تشوّه الإسلام والحملات الصليبية في القرون الوسطى، فإن ممارسة مشابهة تبرّر اليوم حملة التعبئة العامة ضد الإسلام والمسلمين من دون تمييز أو تخصيص.

بل أكثر من ذلك، انتشرت في الغرب صورة عن إسلام عدواني وإرهابي قبل أن يتعرّض الغرب لأية عملية إرهابية من قبل أقليّة إسلامية متطرفة. وهذا يعني أن الإسلام، وبلا مقدمات مقنعة، تحوّل إلى تهديد علني ومباشر ضد النظام العالمي واحتل مكان الشيوعية في عقيدة الجيوش الغربية واستراتيجيات التعبئة للحروب، وضعت منه وسائل الاعلام “شيطاناً هارباً من سجنه”، وفق عبارة مارتن لوثر في موعظة الحرب، متغلغلاً داخل الغرب وفي يده قنبلة نووية.

ولا يجسّد هذا التحوّل رؤية جديدة للإسلام، بقدر ما يعطيها توصيفاً ملائماً لعقلية العصر. فقد كان الإسلام موصوفاً دائماً بخطره الجاثم، منذ معركة بواتييه حتى اليوم، تتغيّر أحواله بين هجوم ودفاع، بين حضارة وانحطاط، لكن صورته في الغرب لا تتغيّر. عندما كان قوياً، رآه الغرب قبائل تنشر القرآن بالسيف. وعندما بلغت حضارته ذروتها، اكتشف فيه الغرب الغرائز والملذات والحريم وتعدّد الزوجات والاستبداد. وعندما شهر ممانعة ضد الاستعمار، تحوّل الى “أفواج من البرابرة الممقوتين”.

ترجع جذور الإساءة الراهنة الى الخطاب الغربي عامة والأميركي بشكل خاص، حول النظام العالمي الجديد الذي برزت ملامحه لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة والانتصار على الشيوعية

لا تقلّل هذه الصورة السلبية من أهمية القراءات الموضوعية والعلمية ودورها في تقديم صورة إيجابية عن الإسلام وانجازاته، والتي قام بها مستشرقون مستقلون وحياديون في مجال أبحاثهم ودراساتهم. بيد أن الصورة السلبية، للأسف، كانت أوفر حظاً في الانتشار والتعميم والأكثر فائدة وقدرة على تعبئة الرأي العام بما يتلاءم والمصالح العليا للقوى الماسكة بزمام وقرار النظام العالمي الجديد.

وقد بدأ المتحدثون باسم هذا النظام، من سياسيين وعسكريين واعلاميين ومثقفين، في صياغة خطابه حول الإسلام، منذ بداية تسعينيات من القرن الماضي. وقد عملوا على تجميع عناصر هذا الخطاب من دون ترابط أو وازع من أي نوع.

وبمعزل عن تبريرات مستمدة من وقائع ملموسة، تشكلّت جذور الإساءة في خطاب يصطنع الخوف من خصم لم يعلن خصومته بقدر ما يملك أسلحة لم يُشهرها بعد: الكثافة البشرية، الموقع الاستراتيجي، السوق الاستهلاكية الكبيرة، النفط والغاز، الودائع المصرفية، الإرهاب، الهويّة المعتقدية والثقافية… وهي أسلحة إذا اجتمعت في نصاب واتفقت في غاية وانضوت تحت قيادة جامعة، ستولّد تهديداً لا يستهان به.

هكذا تحوّل هذا الخطاب الى مرجع وملاذ كل إساءة لاحقة للإسلام ورسوله. فهو الذي أسقط التهديد الإسلامي على إحساس غربي عميق بالخطر الاستراتيجي للإسلام وأثره على استقرار النظام العالمي الجديد، بقيادته ومصالحه وشروطه. وهو الذي حوّل الإسلام إلى وباء داخلي، يزيد البطالة وأزمة الخدمات، ويهدد باختلال ديموغرافي مع كثافة الهجرة، كما يرخي النفط وعائداته ظلالاً مبهمة على المشكلات الاقتصادية، ويعيش السلام الداخلي في قلق دائم من “إرهاب إسلامي” بالنسبة للمسلمين، أساساً للتفاعل والتعامل مع الغرب وحضارته، وبالرغم من أنه “يشكّل قاطرة التحديث والتطور في العالم الإسلامي”، كما يقول فولكر نينهاوس [3] ، وبالرغم من أن المجتمعات الإسلامية لا تعيد تنظيم نفسها على إيقاع حرب شاملة ضد الغرب أكثر مما تفكر في كيفية التخفيف من نتائج السياسة الغربية ضدها، بالرغم من كل هذا، يقول جون كالفن، القائد الأعلى السابق لقوات حلف الأطلسي، في كلمته الوداعية في بروكسل: “إننا قد ربحنا الحرب الباردة، وها نحن نعود اليوم بعد 70 عاماً من الصراعات الضالة إلى محور الصراع القائم منذ 1300 سنة، إنها المجابهة الكبيرة مع الإسلام”[4].

لا تحتاج هذه الكلمات إلى تفسير أو تبرير. إذ، بعد أن يكتشف كالفن ضلالة الصراعات وضخامة الخوف من الشيوعية، يقترح العودة إلى نفس الضلالة لصياغة خطاب يجدّد دور حلف الأطلسي، بعد توسيعه، انطلاقاً من تضخيم الخوف من خطر الإسلام.

على هذا السؤال، كتب ريتشارد نيكسون، في كتابه الأخير “اقتناص اللحظة”، قائلاً: “إن الإسلام سوف يصبح قوة جيوسياسية متعصّبة. فمن خلال نمو سكانه ومن خلال تبوئه مركزاً مالياً مهماً، سيفرض تحدياً رئيساً يحتّم تحالفاً جديداً مع موسكو للتصدي لعالم إسلامي معادٍ وعدواني” [5].

وبينما يلاحظ نيكسون أن العالم الإسلامي “أكبر وأكثر تنوعاً من أن يحركه قرع طبل واحد”، فهو ينتشر في عشرات الدول وشعوبه تنتمي إلى 190 إثنية ويتحدثون بمئات اللغات واللهجات وينقسمون إلى مذاهب سنية وشيعية وصوفية وغيرها، ويشكلون سدس سكان العالم في بقعة يبلغ طولها 10 آلاف ميل، من المغرب إلى يوغوسلافيا، ومن تركيا إلى باكستان، ومن آسيا الوسطى إلى اندونيسيا… فإنه يستخلص قائلاً: “إننا نتحدث عن العالم الإسلامي كشخصية واحدة. ليس لأنه يوجد مكتب سياسي يوجّه شؤونه السياسية، ولكن لأن كل الأمم الإسلامية تشترك في تيارات سياسية وثقافية تصب في مجموع الحضارة الإسلامية…. إن اللحن السياسي نفسه يتردّد في طول العالم الإسلامي وعرضه، بصرف النظر عن الفوارق بين الدول المختلفة… إن المشاركة في العقيدة والسياسة تولّد تضامناً مائعاً، ولكنه تضامن حقيقي” [6].

ويستحضر هذا الخطاب، أيضاً، أسباباً لا تنتمي إلى الإسلام كحضارة وعقيدة، بحيث ينقلب الإسلام إلى إسقاط متعمّد للعنف والإرهاب والتسلّط ومصدر لأزمة اقتصادية – اجتماعية داخل الغرب نفسه. في هذا السياق، يصبح الإسلام رمزاً للإرهاي وخليفة محتملاً للنازية والفاشية والشيوعية وتهديداً للأمن والسلام في العالم برمته.

ففي أوروبا، يتنفّس الخوف من الإسلام من علاقات تماس مباشر حول البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا، وما تحمله من ذكريات صليبية واستعمارية ونفطية ومنافسات اقتصادية واحتكاك ثقافي وحضور زادته الهجرة والبطالة حدةً وقلقاً.

أما في الولايات المتحدة، حيث العداء للإسلام يتسم بحداثة ملحوظة ويستمد عوامله من الصراع العربي – الإسرائيلي والثورة الإسلامية في إيران، فإن وعي مركز النظام العالمي الجديد لإمكانية الإسلام في مواجهته، سرعان ما تحوّل إلى هاجس وتعبئة معادية للإسلام والمسلمين، وخفّف من صراعات عرقيّة ودينية وثقافية شهدتها الولايات المتحدة منذ ولادتها.

وقد تشكلت الصورة الأميركية عن الإسلام على إيقاعات النفط والرهائن والإرهاب. بهذا المعنى، يقول دان كويل، نائب الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، في خطبة ألقاها في أكاديمية أنابوليس البحرية: “إن الإسلام يشكل تهديداً للغرب، مثل التهديد الذي كانت تمثلّه الشيوعية والنازية”. ويعلن بات بوكانان، المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية سنة 1992 في إحدى حملاته الانتخابية، أن “الصراع على مستقبل الإنسانية خلال 1000 سنة كان بين المسيحية والإسلام، وقد يعود ذلك في القرن المقبل…”[7].

تعطي هذه النصوص فكرة عن مساهمة السياسيين في تخصيب الجذور التي أنتجت الإساءة الأخيرة بعد عقدين من الزمن تقريباً. على منوالها تأتي نصوص المفكرين والإعلاميين. وكلها نصوص غير بريئة في تعبئة الرأي العام بما يضمن قبوله واعجابه بكل إساءة محتملة، رسوماً كانت أو فيلماً أو حرباً مفتوحة.

تندرج في هذا السياق أيضاً نصوص المثقفين. فقد كتب المستشرق الأميركي برنارد لويس، في مقالته حول “جذور الغضب الإسلامي” المنشورة في مجلة “أتلانتيك” سنة 1990، قال فيها إن: “المواجهة المقبلة للغرب ستأتي حتماً من العالم الإسلامي، وعلى امتداد الدول الإسلامية من المغرب إلى باكستان سيبدأ صراع من أجل نظام عالمي جديد”.

ثم يستطرد قائلاً: “نحن نواجه حالة فكرية وحركة تفوق مستوى القضايا والسياسات والحكومات التي يسعون ورائها، ولا يعتبر هذا أقل من صراع حضارات، ربما هذا عمل لا عقلاني، ولكنه بالتأكيد ردّة فعل تاريخية للندّ القديم ضد تراثنا اليهودي – المسيحي، ضد وجودنا العلماني على مدى انتشار كل منهما” [8].

وفي حين يقلل فوكوياما من الخطر الإسلامي ويبقيه محصوراً في الثياب والصلاة، يبشّر هنتنغتون بحرب حضارية عالمية بين الإسلام والغرب.

بعد أن يعترف فوكو ياما بأن الخطر الإسلامي يمثل التهديد الأيديولوجي الوحيد المتبقي في مواجهة الليبرالية-الديمقراطية إثر انتصارها على الشيوعية، الثيوقراطية، الارستقراطية، الملكية، الاستبدادية، الفاشية والنازية…[9،] يحصر الخطر الإسلامي في النظام الفكري والمعتقدي للإسلام أكثر مما يعتبره ترجمة للقوة السياسية والعسكرية.

وبما أن الإسلام لا يشكل خطراً على الليبرالية – الديموقراطية في عقر دارها، فإنه يشكّل، بالضرورة، خطراً عليها في عقر داره. هنا بالذات تندرج موقعية الإسلام في نصوص فوكوياما، ويتوارى القلق على أيديولوجية النظام العالمي ومصالحه خلف التخفيف من خطر الإسلام داخل الغرب، مقابل حاجة هذا النظام نفسه إلى نقل المعركة إلى داخل العالم الإسلامي سواء تمثّل ذلك بمحاصرته، أم تمثّل بالتدخل وتوجيه وتأجيج تناقضاته الداخلية.

ومن دون تمييز بين إسلام “معتدل” وآخر “متطرف”، انتهى إلى القول: “هل يمثل الإسلام الراديكالي الخطر الرئيسي على الديموقراطية؟ ماذا يعني الخطر الرئيسي؟ يمكن للبلدان الإسلامية أن تشكّل خطراً على الغربيين وإمداداتهم بالنفط… يمكنها أيضاً القيام بأعمال إرهابية… يمكن لهذه البلدان، أيضاً ان تمتلك القنبلة. تطرح الهجرة من البلدان الإسلامية مشاكل اجتماعية خطيرة في فرنسا وبلدان أوروبية أخرى. ولكن الإسلام، خارج محيطه الثقافي، لا يمكنه، من دون إيرادات النفط، تشكيل أساس يتطور عليه نظام اقتصادي عصري… إن التهديد الإسلامي للحضارة ولقيم الغرب أقل من ذلك الذي مثلته الشيوعية… إن الأصولية الإسلامية قوة نافذة جداً في العالم الإسلامي، ولكنها لا تنتشر خارجه. عندما نرى فتيات ألمانيا بالتشادور وشبابها يصلون متوجهين نحو الكعبة، عندها نشعر بخطر فعلي على نمط حياتنا” [10].

من جهته، يضع هنتنغتون الإسلام وحضارات الشرق الأقصى في مواجهة الغرب في سياق التمهيد لحرب عالمية بين الحضارات. فالعقبات الأكبر والأعظم التي تعترض انتشار الحضارة الغربية تتمثل في البلدان الإسلامية والكونفوشيوسية والهندوسية والبوذية[11]. لذلك يستخلص قائلاً إن: “الصراع بين الحضارات سيحل محل الصراعات الأيديولوجية والأشكال الأخرى كشكل مهيمن للصراع العالمي… إن التركيز الأساسي للصراع في المستقبل القريب سيكون بين الغرب والعديد بين الدول الإسلامية – الكونفوشيوسية”[12].

كما أدلى مثقفو أوروبا بدلوهم في هذا المجال، وإن كانوا أكثر وضوحاً في توصيفهم للخطر الإسلامي. هناك حيث يلعب التداخل الثقافي والتجاور الجغرافي دوراً محورياً في جعل الخوف من الإسلام جزءاً من الحياة اليومية.

ففي كتابه انتعاش الديموقراطية، كتب جان فرنسوا روفيل قائلاً إن: “الإسلام ليس جزءاً من العالم الحديث… ولا يستطيع تقديم فهم للعالم المعاصر، ولأنه، وهذا أهم، يهدده من الداخل؛ ففي السابق كانت أوروبا تعتبر الإمبراطورية العثمانية خطراً، لكنه خطرٌ كان يقف عند أبوابنا ولا ينتشر في مجتمعاتنا ولا ينغرس في قلب مدننا وفي داخل دولنا. أما حالياً، فإن الهجرة الكثيفة وسهولة الحصول على الجنسية تسلحان التصلب الإسلامي وتوفران له قلاعاً متكاثرة بيننا”[13].

وبقدرة قادر أصبح الإسلام، والإرهاب، وجهان لعملة واحدة. ذلك أن الدعوة إلى القتل فكرة ثابتة لا يعرف المسلمون التلفظ بغيرها، كما يقول روفيل، الذي يستطرد “لا يمكن أن نصف بالتسامح ديانةً يتساوى فيها الاختلاف مع الإعدام… إن الإسلام هو مصدر تسعة أعشار الإرهاب العالمي الرسمي. هل يتوجب علينا أن نحرس مكاتبنا ومسارحنا ومتاحفنا من هذا التعصب الذي يريد فرض الرقابة على ثقافتنا مع مفعول رجعي…” [14]. ثم يكرر تشبيه الإسلام بالنازية والشيوعية، بعد الغرب عليهما معاً لا يبقى سوى الإسلام بما هو التهديد الوحيد، وبالتالي، “لا يمكن المساومة مع مشروع هدفه تدميرنا” [15].

هذا في فرنسا، أما في بريطانيا فقد انتشرت رؤى ونظريات مماثلة تلتقي كلها في خطاب واحد وتحذيري من الإسلام. ففي مقالة بعنوان “مذهب تسلطي آخر يحاول التسلل إلى الغرب”، كتبت كلير هولينغ خورث قائلةً: “إن الأصولية الإسلامية تصبح بسرعة التهديد الرئيس لسلام وأمن العالم وأيضاً سبباً للاضطرابات المحلية وعلى الأصعدة الوطنية من خلال الإرهاب” [16].

من البديهي القول إن نصوصاً من هذا النوع تحول دون أية محاولة للتفاعل والحوار قد تؤدي إلى انخراط العالم الإسلامي في النظام العالمي، وإنما بالعكس تماماً، فهي جزء لا يتجزأ من عقلية الإقصاء ومصنع إعلامي حاسم في تفاقم ظاهرة الإسلاموفوبيا.

وإذا لم تكن كذلك، فما هي الدوافع من معركة الحجاب في فرنسا، أو استهداف المسلمين انطلاقاً من ثيابهم أو مساجدهم أو شعائرهم؟ وهي أعمال يقوم بها أفراد وجماعات من العنصرية الجديدة إلى درجة مخيفة في أبعادها وتفاصيلها، وتكاد تصدر جميعها عن قرار واحد أو إجماع سياسي رسمي أو شعبي.

ففي السويد، حيث تجربة الاحتكاك بالإسلام حديثة العهد، ومن دون ذكريات تاريخية أليمة أو مقدمات دموية وسياسية، يندلع حريق متعمد في أحد مساجد ستوكهولم، يعقبه سؤال للسياسية اليمينية فيفيان فرانتسن: “كم سيستغرق الأمر قبل أن يركع أطفال السويد باتجاه مكة؟”[17].

خلاصة الكلام، فإن الإساءة الراهنة للإسلام، وإن كانت تتضمن، في ذاتها، إساءةً لكل دين، ليست تعبيراً عن انفعال فردي بقدر ما تستمد مبرراتها من الجذور التي زرعها سياسيون ومثقفون واعلاميون، وكل محاولة لاختزالها في ممارسة فردية تتغافل عن جذورها الكامنة في مواقع القرار السياسي ومجالس إدارة المصالح الاقتصادية.

ولن تتوقف هذه الظاهرة عن التكرار، بين الحين والآخر وحسب الحالة والضرورة، إلا عندما يتوقف منتجوها الحقيقيون عند عبارة الشاعر الأميركي روبرت لويل ويتعمقون في فهم أبعادها: “عند سقوط الرب، بدأ الشيطان أكثر حرية بيننا”.

 

المصادر والمراجع

 

[1] فرنسيس فوكو ياما: نهاية التاريخ والانسان الأخير، مركز الانماء القومي، بيروت، 1993.

[2] صموئيل هنتنغتون: صدام الحضارات، ترجمة هنادي حمود، مجلة المنطلق، العدد 106، شتاء 1994، بيروت، الصفحات 175-195.

[3] وردت في ندوة الإسلام وتحديات العصر، جريدة السفير، عدد السبت في 11 حزيران 1994.

[4] نقلاً عن المرجع السابق، عدد يوم الجمعة في 10 حزيران 1994.

[5] Richard Nixon: Seize the Moment, American Challenge in a One-Super Power World; Ed. Simon and Schuster, New York, 1992, p. 195.

[6] المرجع السابق، صفحة 199.

[7]  ذكرها فريد هاليداي في مقالته: أيديولوجيا أم أيديولوجيات العداء للمسلمين، منشورة في جريدة الحياة على حلقات، الحلقة الرابعة، العدد 11407، الأربعاء في 11- 5- 1994.

[8] نقلاً عن هنتنغتون، صدام الحضارات، مرجع سابق، صفحة 183.

[9] فوكوياما: نهاية التاريخ، ص 205.

[10]  المرجع السابق، ص 71.

[11] صدام الحضارات، صفحات 181 – 185.

[12]  المرجع السابق، صفحات 194 – 195.

[13]  نقلاً عن جوزيف سماحة: نهاية التاريخ وردود الفعل، مجلة الاجتهاد، العدد 15 -16، ربيع وصيف 1992، بيروت، ص 306.

[14]  المرجع السابق، صفحات 306 – 307.

[15]  المرجع السابق، ص 307.

[16]  ذكرها فريد هاليداي في مقالته المذكورة سابقاً.

[17]  نقلاً عن المرجع السابق.


علي الشامي – أستاذ فلسفة الحضارة في الجامعة اللبنانية

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.