الطائفة المختفية.. كيف تراجع عدد اليهود في لبنان لبضع عشرات؟

ردنا – سلطت وفاة إسحق ارازي، زعيم الطائفة اليهودية في لبنان، الضوء على تاريخ وجودها الذي يمتد لقرون خلت. فرغم كونها إحدى الطوائف الـ18 المعترف بها في الدستور اللبناني، لا يزيد عدد اليهود في لبنان حاليا عن 29 شخصا.

أرازي الذي توفي في ديسمبر الماضي عن عمر 80 عامًا، ودُفن في المقبرة اليهودية في العاصمة اللبنانية، أشرف في مطلع الألفية الجارية على أعمال ترميم كنيس “ماغين أبراهام” الواقع في حي وادي أبو جميل حيث اشتهرت المنطقة سابقا باسم “وادي اليهود”. وأمل عام 2009 أن تعزّز هذه الخطوة فرصة توسيع عديد أفراد الجالية مجددا.

وكانت التساؤلات قد توالت إبان الإعلان عن ترميم الكنيس عن جدوى إحياء هذا المعبد لطائفة تكاد تندثر من لبنان. حيث تساءلت وسائل الإعلام الدولية وحتى بعض أعضاء الجالية اليهودية داخل وخارج لبنان عمن سيصلي هناك بعدما تراجع عديدهم في مختلف المناطق اللبنانية تبعًا للأحداث المتعاقبة عبر العقود. فهذا الكنيس الذي يعتبر الأكبر في العالم العربي، كان قد دُشن عام 1926، حين كان عدد اليهود 22 ألفا قبل الحرب الأهلية اللبنانية.

 

قبائل “المنسي”

معظم اليهود اللبنانيين من أصول مزراحية، عاشوا في العاصمة بيروت وضواحيها، ويشير التاريخ القديم إلى دلائل على أن اليهود امتدوا إلى سفوح جبل الشيخ. وفي التوراة، وسمي هؤلاء اليهود بقبائل “المنسي” والتي تعني في العبرية “الذين نسوا أنهم يهود”.

ويشير الإنجيل إلى وجود تجمعات يهودية حول صور وصيدا وقانا بناء على قصص رحلات يسوع المسيح.

وتقول المراجع التاريخية أنه عقب ثورة بار كوخبا التي حصلت عام 132، هرب اليهود من بطش الرومان واستوطنوا بعض المناطق في لبنان. وبين عامي 642 و 680، أنشأ معاوية مستوطنات يهودية في طرابلس. وعام 922، كان هناك وجود لليهود في مدينة صيدا، وأنشأ المعهد اليهودي الفلسطيني في مدينة صور عام 1071.

 

القرن العشرين

وفي لمحة تاريخية، انتقل اليهود من إيطاليا واليونان وسوريا والعراق وتركيا ومصر وإيران إلى بيروت عام 1911، فزاد عدد أفراد الجالية عن 5000 يهودي.

ولقد كفلت المادتان 9 و10 من دستور لبنان لعام 1926 حرية ممارستهم للشعائر الدينية كبقية الطوائف. فكان للطائفة اليهودية الحق في إدارة شؤونها المدنية الخاصة، بما في ذلك التعليم، وبالتالي كانت الطائفة اليهودية محمية دستوريًا.

وازدهرت الطائفة اليهودية في ظل الانتداب الفرنسي ولبنان الكبير. فقد كانوا أصحاب نفوذ آنذاك في جميع أنحاء لبنان.

كيف تراجع عدد اليهود في لبنان لبضع عشرات؟
كنيس يهودي مهجور في دير القمر بمحافظة جبل لبنان

النكبة

أما بعد النكبة الفلسطينية عام 1948، فقد تواجدت الجاليات اليهودية في وادي أبو جميل ورأس بيروت، وبشكلٍ أقل في منطقة الشوف وخصوصًا في دير القمر وعاليه وبشامون وبحمدون وصيدا وحاصبيا.

وتشير المدونات، إلى أن يهود لبنان رفضوا آنذاك دعم منظمة يشوب الصهيونية المتطرفة. وكان لبنان البلد العربي الوحيد الذي زاد تعداد الجالية اليهودية بعد اعلان دولة إسرائيل عام 1948. لكن، إثر أحداث الثورة عام 1958، هاجر العديد منهم إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. وكانت لحرب لبنان الأهلية الاثر السلبي الأكبر على يهود لبنان حيث قُتِلَ فيها 11 زعيمًا يهوديًا عام 1982.

وفي العام نفسه، دمّر الطيران الإسرائيلي كنيس ماغين أبراهام في بيروت خلال الغزو الإسرائيلي للمدينة. فأصبح حي اليهود في وادي أبو جميل خاليا. وكان يوسف مزراحي، آخر الزعماء اليهود الذين هاجروا لبنان إلى فرنسا عام 2003.

 

الطائفة المختفية

في زقاق بمدينة صيدا جنوبي لبنان، هناك بناء يحمل رمزية خاصة، يؤكد الوجود اليهودي في لبنان، حيث ترتفع القناطر مكسوة بالرسومات الدينية في الكنيس الذي تحوّل إلى بيت.

وفي طرابلس عاصمة الشمال، يوجد كنيس آخر قرب ما كان يعرف بخان العسكر، أخفى الزمن والإهمال معالمه، وغطت مداخله النفايات. أما في بيروت، أسهمت بعض أعمال الترميم بإبراز الكتابات باللغة العبرية والنقوش ونجمة داوود البادية على القناطر.

لم يبق من يهود لبنان سوى العشرات، والمعالم الدينية الاثرية التي تدل على ان اليهود كانوا هنا.في طرابلس في شمال لبنان، يقطن ما تبقى من ابناء الطائفة اليهودية وهم غير معروفين ويمارسون عاداتهم وتقاليدهم بسرية تامة. غادر معظمهم الى اميركا، وقلة قليلة الى اسرائيل ولم يبق شيء سوى الذكريات.

في كتابه “يهود لبنان: من أبراهام حتى اليوم، حكاية طائفة مختفية” (Juifs du Liban: D’Abraham à nos jours, histoire d’une communauté disparue)، يجمع المفكر اللبناني المتخصص في الشؤون اليهودية ناجي جرجي زيدان، معلومات عن دورها في تنمية لبنان، ثم الانخفاض الدراماتيكي في عددها من 3500 إلى 29 فرداً فقط”.

يقول الباحث طارق كوى صاحب مشروع “ذكريات بيروت”: “في محيط بيروت، لا يخفى الوجود اليهودي على أحد. يعيدنا البحث عن تاريخهم القديم إلى شارع فوش (Foch) حيث جامع الدباغة الذي استوحى اسمه من أحد أبواب بيروت وسورها، حين كان اليهود يمتهنون مصلحة دباغة الجلود”.

وعرف عن يهود لبنان، بحسب كوى حتى ستينيات القرن الماضي، امتهانهم مصالح عدة في عالم المال والتسليف والخياطة وتجارة الذهب والأقمشة والتنجيد والأعمال والتجارة.

ويتحدث عن بنك صفرا الذي أخذ اسمه من عائلة صفرا اليهودية ويقع في شارع اللمبي ببيروت.

عمل الكثير من التجار اليهود في شارع اللمبي، وكان بعضهم من جذور إيرانية، وامتهنوا تجارة السجاد، لكن مع اندلاع حرب عام 1967، ودخول المزيد من اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، بدأوا ببيع محالهم، وغادروا البلاد تدريجياً، فلم يبق إلا قلة تفضل العيش بصمت بعيداً عن الاتهامات بعلاقتها مع إسرائيل.

كيف تراجع عدد اليهود في لبنان لبضع عشرات؟
كنيس ماغين أبراهام في بيروت، تمت إعادة ترميمه في العام 2010

أملاك يهودية

حروب عدد من الجيوش العربية مع إسرائيل وتداعياتها على الفلسطينيين، خلقت نوعاً من المعاداة لوجود اليهود في أغلب الدول العربية، وكانت لبنان بينها.

يذكر المؤرخ طالب قرة أحمد، في كتاب “الطائفة اليهودية في صيدا: تاريخها وحضورها”، محاولة طمس وجودها من خلال تغيير اسم حارة اليهود في صيدا إلى حارة القدس، وإزالة الأعياد اليهودية من الرزنامة اللبنانية الرسمية، وإقفال المدرسة المخصصة لهم، حيث كانت جزءاً من سلسلة مدارس تعرف باسم (الإليانس).

توترت العلاقات مع يهود لبنان بعد أن عمد الجيش الإسرائيلي على التواصل مع بعضهم وتشجيعهم على مرافقتهم إلى إسرائيل، وخوِنوا واتهِموا بالعمالة، لكن هذا “لا يعني أن جميع اليهود اللبنانيين كانوا من الداعمين لإسرائيل” وفقاً لكتاب قرة أحمد.

في 26 أغسطس 1929، نظم يهود لبنان تظاهرة بالتوازي مع التظاهرات المنددة في القدس ضد وعد بلفور، ووقع الحاخام اليهودي في صيدا على عريضة التنديد، بحسب مؤلف كتاب “الطائفة اليهودية في صيدا: تاريخها وحضورها”.

وتنوعت الهجرة اليهودية من لبنان في وجهتها، فذهب البعض إلى إسرائيل، وآخرون توزعوا بين دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.

مع ذلك، لم ينته وجودهم في السجل العقاري، إذ ما تزال الكثير من الممتلكات الخاصة مسجلة بأسمائهم، فكان لهم 17 كنيساً، وبعض مالكيها أوكل أشخاصاً لجمع الإيجارات ممن استفادوا من مبانيها بشكل أو بآخر.

في الوقت ذاته، تُركت أوقاف ثانية ككنيس صيدا لتسكنه عائلة مهاجرة، أو مُنح آخر اليهود الحق باحتكار أراضي الطائفة.

وبسبب منع لبنان دخول أي شخص أراضيه بجواز سفر إسرائيلي أو يحمل تأشيرة أو طابعاً إسرائيلياً، يبقى مصير آخر الشواهد على وجود اليهود معلقاً، وتبقى آثاره دليلاً على أن البلد الذي مزقته الحروب، عرف بعض فترات السلم والتعايش.

 

المصدر: ردنا + مواقع إلكترونية

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.