في بيت روح الله

هو روح الله بن مصطفى بن أحمد الموسوي الخميني، وبالفارسيّة يُختصر الاسم إلى: سيّد روح الله موسوي خميني، ويُعرف رسميّا باسم الإمام الخميني. وهو المرشد الأعلى الأول للجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، ومثبّت في الويكيبيديا في باب (المهنة): سياسي، وشاعر، وزعيم روحيّ، وآخوند (كلمة تُطلق بالفارسيّة على علماء الدين الكبار والأفاضل) وعالم عقيدة، ومتصوّف. اسم زوجته: خديجة ثقفي، توفّيت في سنة وفاته نفسها. أولاده: مصطفى الخميني وأحمد الخميني وزهراء الخميني وفريدة مصطفوي، وهناك في غوغل صورة لرسم توقيعه: روح الله في الأسفل، وفوقها كلمة الخميني، بنقطتين تعلوان الكلمة، واحدة عن حرف الخاء، والأخرى لحرف النون.

في تفسير معنى اسمه قالت المراجع إن (روح الله) لا تعني أنه جزء من الله لأن الله تعالى ليس مركبا، وليست له أجزاء، بل تعني أنه من قدرة الله وأمره، أو أنه مؤيّد من الله. نقرأ في الآية 22 من سورة المجادلة: «أولئك كَتَبَ في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه». وأخصّ القرآن الكريم لقب روح الله بعيسى بن مريم. ذُكر هذا في سورتين هما التحريم الآية 12: «ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا» وفي سورة النساء الآية 17: «إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمتُهُ ألقاها إلى مريم وروح منه». أما ذكر (روح الله) فقد جاء في قوله تعالى في سورة يوسف الآية 87: «ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأسُ من روح الله إلا القومُ الكافرونَ».

توفّيَ روح الله الخميني في 3 يونيو/حزيران 1989 ودُفن في مدينة طهران، وحضر الجنازة عشرة ملايين ومئتا ألف شخص، والمقبرة التي تضمّ ضريحه تسمى جنّة الزهراء. حمل الراحل لقب آية الله العظمى، وهي درجة علميّة تمنحها الحوزة العلميّة في مدينتي النجف وقم، وأُضيف إلى اللقب (العظمى) لأنه بلغ الاجتهاد في نظر الشيعة، وأصدر رسالته العلميّة، أي مجموعة فتاواه في العبادات والمعاملات في الإسلام. من فتاواه أنه أعلن آخر يوم جمعة من رمضان، باسم يوم القدس العالمي (بالفارسي: روز جهاني قدس) وهو حدث سنوي يعارض احتلال إسرائيل للقدس، يُعقد في إيران ودول أخرى، ومن فتاواه أيضا أنه أشار إلى الولايات المتّحدة بأنها (الشيطان الأكبر) والاتّحاد السوفييتي (الشيطان الأصغر) وأفتى كذلك بالدعوة إلى قتل الروائي الهندي البريطاني سلمان رشدي، بسبب تأليفه روايته التي اشتهرت كثيرا (آيات شيطانيّة).

لم أكن أقصد زيارة منزل الخميني، لأني ببساطة كنت أجهل الأمر. وأنا أسير في زقاق قريب من سوق الكتب الرئيسي في مدينة النجف، واجهتُ لافتة خشبيّة صغيرة تعترض السائر مكتوبا عليها بالأسود: «بيت | الإمام الخميني (قدس سرّه) | (النجف الأشرف)» وفي اللافتة خطآن إملائيّان ثبّتّهما، نقلا عن الأصل. كان العثور على البيت مفاجأة لي، وقطعتُ مباشرة المشوار الذي كنتُ فيه، وقرّرت، بكثير من الحماس، زيارة منزل روح الله.

فحصتُ البيت ركنا ركنا وجدارا جدارا وسقفا سقفا، وقِستُ أبعاد كلّ غرفة ونافذة وممشى وباب، وصعدتُ درجا ونزلتُ درجين، وثبّتُ كلّ هذا في ذهني وفي مخزن صور هاتفي. بعد حوالي شهرين زرتُ المكان ثانية، وتأكّدت من نتائج عملي الأولى، ثم شرعت بعد ذلك في رسم صورة للبيت الذي انتظمت وترسّخت فيه حياة الخميني وعائلته بين عامي 1965 وحتى نهاية 1978، حيث غادر إلى باريس. لا يهمّني الجانب السياسي وعلاقة الإمام مع الحكومة العراقية، ولا الأحداث التي جرت في العراق وإيران في ذلك الوقت، لأن أبحاثا كثيرة تناولت الموضوع، ويختصّ المقال بدراسة بيت روح الله.

المنزل كائن في زقاق ضيّق قريب من مرقد الإمام عليّ بن أبي طالب، حيث تقع على مشارفه مقبرة (وادي السلام) الخاصّة بالمسلمين الشيعة، وتُعدّ أكبر مقبرة في العالم لأنها تحتوي على ما يقارب ستة ملايين قبر، ولا تبعد عن منزل روح الله كثيرا، ويمكن قطع المسافة بينهما سيرا على الأقدام. يجاور المنزل دكّان مغلق طوال الوقت، ثم فرن للخبز، يواجه الخبّاز ومعاونه ثلاثة تنانير تشتعل فيها النار باستمرار. المبنى المقابل للدار قديم للغاية، فهو مهدّم وتحوّل سردابه العميق إلى محلّ واسع لبيع موادّ البناء في أكياس من الجنفاص. ثم ينتهي الزقاق عند أحد أسواق المدينة.

تبلغ مساحة البيت 100 متر، بطابقين مع سرداب، ومشيّد من الآجر، وفقا لما يُعرف بالعمارة البغداديّة المبنيّة في منتصف القرن الماضي، والسائدة في كل مدن وسط وجنوب العراق، رغم أنه نسخة طبق الأصل من بقيّة البيوت، لكنّه سَكَنُ الإمام، ولهذا فإن كلّ ما فيه يبدو مختلفا. الباب خشبيّ ويؤدي إلى مدخل يقوم بدور الموزّع، إلى الأمام حوش مفتوح إلى السماء، وإلى جهة اليمين ينزل سلّم طويل إلى السرداب، وإلى الشمال يؤدّي المدخل إلى غرفة خاصّة بدروس الإمام، يجالسُ فيها ضيوفه وتلامذته ومريديه. يمكن للرجل الحرّ أن يسكن كوخا أو سفحا محفورا أو جذع شجرة مجوّفة، ويأويه كهف أو حفرة في الطين مع سقف من القشّ، ويرى في الوقت نفسه العبيد ينزلون بين الرخام والذهب. إنها فذاذة البشريّة أن يكرّس رجل يقيم في هذه الحجرة نفسه لرسمَ خريطة العراق وإيران والبلدان المحيطة، وكذلك العالم، في القرن الماضي والحاضر، وإلى أمدٍ غير معلوم، ولهذا وضعتُ لهذه الغرفة قسما خاصأ من كلامي، أتفرّغ إليه في الأخير.

السرداب عبارة عن بيت ثانٍ يقع تحت الأرض، وفيه جناحان واحد كبير تسكنه عائلة الإمام في أيّام القرّ والحرّ الشديدَين، وجناح أصغر يشبه غرفة الزوجيّة، ويتّصل الاثنان بممرّ طوله متران ونصف المتر، وعرضه أقلّ من متر بقليل، ولا يوجد باب يحجز بين الجناحين. كما يؤدي الجناح الصغير هذا دور الحجرة الصغيرة التي مرّ ذكرها، والتي يجتمع فيها الإمام مع تلامذته، مثلما مثبّت في اللوحات الإرشاديّة المعلّقة على الجدران. ينزل هذا السرداب بسلّم صغير إلى سرداب ثانٍ، هو عبارة عن فسحة صغيرة تنتهي ببئر، وعلى الحائط لافتة ورقيّة مطبوع عليها: «آب انبار | بئر الماء» ونلاحظ هنا خطأ إملائيّ آخر. إن موقع البئر في أوطأ نقطة تتيح له أن يمتلك دلالة طهوريّة، حيث ينغمر كلّ ما في المنزل في الماء، وتتصل دور النجف القديمة بعضها ببعض عن طريق هذا البئر، فتكون وسيلة لانتقال الثوّار في سنوات التمرّد والثورة.

حوش المنزل مستطيل الشكل أبعاده حوالي 4×5 ومكشوف إلى السماء، تشغل المكتبة جانبه الأيسر، وهي غرفة طوليّة 5×3 تقع لِصقَ الحجرة الصغيرة التي مرّ ذكرها، وفيها باب خشبيّة مزوّدة بنافذة عليا، وثلاث نوافذ طوليّة موازية للباب ومشابهة لها. على الجدار لافتة بالفارسيّة والعربيّة والإنكليزيّة: «قاعة المطالعة ومكتبة الإمام». الجانب المقابل للمكتبة بابه مقفلة، عليها لافتة باللغات الثلاث: «غرفة الخدم» بجواره يقع «المطبخ» وهو عبارة عن ممرّ طوليّ قصير ينتهي بعطفة إلى اليمين. هنالك سلّم حجريّ يصعد إلى الطابق الثاني من المنزل، ويقع «مكان معيشة الإمام وحرمه» فوق المكتبة، وهناك غرف مغلقة في الجانب المقابل، يشغلها على الأغلب أولاد الإمام. سلّم آخر يذهب بنا إلى السطح، حيث يطيب النوم في أول الصيف وآخره في جوّ العراق، وفي شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس يكون السرداب هو المقيل والمهجع، وهكذا تفتّقَ ذهن البنّاء العراقي على أن يفرش أربعة طوابق: (السرداب والطابق الأول والثاني وسطح البيت) في 100 متر هي مساحة البيت، حيث ما كان يمكن أن يكون ساكنوه أشدّ سعادة لأنهم يقضون في هذه الأجنحة فصول السنة الأربعة، والجوّ فيها مكيّف دون أجهزة تبريد وتدفئة، أي أن المنزل البغداديّ القديم يقدّم للعائلة سعادة دائمة لا خوف من فقدانها بسبب انقطاع التيّار الكهربائي أو تعطّل جهاز التكييف.

استقرّ بي المقام أخيرا بعد تطوافي في نواحي المنزل في الحجرة الصغيرة. الزائرون ممنوعون من تجاوز عتبتها، وقلتُ في نفسي وأنا أفحص داخلها بناظرَيّ: «تماسك» وتماسكتُ وأنا أقول هذا في نفسي قدر استطاعتي. إنه أمر يتجاوز الفهم، لأنه يتجاوز عدم التصديق، فرغم تواضعها تبدو الحجرة مهيبة. إنها خالية من الأثاث ومفروشة بالسجّاد، ويسكنها طيف الإمام وآثار خطواته وندى لمساته، وتكتنز رائحته في الحيطان العالية والسقف والنافذتين الخشب، إحداهما متر× نصف تقع عند أعلى الركن الشمالي وتُشرف على الخارج، والثانية طوليّة 3×1 تطلّ على الحوش وتقع فوق الباب الثانية للغرفة، التي تؤدي إلى الحوش. هنالك روازين ثلاثة بديعة التصميم محفورة في الحائط المقابل، ونافذتان واسعتان تصلان الأرض بالسقف، وتشغلان الحائط المشترك بين الحجرة والحوش. سقف الغرفة يرتفع حوالي ستة أمتار عن الأرض ومغلّف بالخشب، وفي مركزه مروحة. حتى الهواء يخاله المرء هنا مختلفا، ولو توجد طريقة لنحت الفراغ، استحقّ فضاء هذه الغرفة أن يبقى خالدا، فقد دارت فيه رؤى وأفكار وأحلام الرجل الذي تمكّن، رغم فقره وبساطة طريقته في العيش، أن يحفر اسمه عميقا على دهر من الزمان، ولا يمكن محو آثاره، ممهورة بهذا الطغراء الفريد: روح الله الخمينى، روح الله في الأسفل، وفوقها كلمة الخمينى، بنقطتين واحدة لحرف الخاء، والأخرى لحرف النون.


حيدر المحسن – كاتب عراقي

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.