محاولات إقصاء “الأنثروبولوجيا” عن الحضارة الإسلامية

العلوم في التراث الإسلامي غنية بالبحث والدراسة، لكن علم الأنثروبولوجيا لم يلق الاهتمام الكافي في الدوائر البحثية الإسلامية، على عكس حاله في المؤسسات العلمية الغربية ومع باحثيها الذين حللوا هذا العلم ووقفوا على دراسته في جميع ميادينه المتصلة به وإن جانبهم الصواب في كثير من تصوراتهم نتيجة لعدة عوامل، ومن هذه العوامل الغرق في العلمانية الزائدة بعيدا عن النظر في فهم حقيقة الأديان، ومنها بالطبع الدين الإسلامي الذي بلا شك كان تأثيره كبيرا على المعرفة الإنسانية، لكننا يجب أن نعترف أن الغياب الشرقي عن دراسة هذا العلم دراسة جادة يعود إلى الخوف من كتابات المستشرقين وعدم التماس مثلا مع نظرية أصل التكوين، خاصة نظرية النشوء والارتقاء لداروين، وهي أحد فروع الأنثروبولوجي، وربما كانت علة هذا العلم تحديدا كونه اعتبر في وقت من الأوقات أداة من الأدوات المهمة التي خدمت الحركات الاستعمارية للشرق، مما سبب حساسية في التعاطي الإسلامي بشكل جيد معه.

 

خلفية تاريخية

يعد الأنثروبولوجي مصطلحا يونانيا في الأصل، وقد اشتق من كلمتين “أنثر” وتعني الإنسان و”بولوجي” وتعني علم، ويدرس هذا العلم كل ما يتصل بالجماعات الإنسانية من حيث نشأتها وسلوكها وقيمها وأعرافها وتقاليدها وكذلك أعمالها وإنتاجها عبر الزمن في مختلف أنحاء العالم، وقد نظر هذا العلم إلى الإنسان كونه كائنا طبيعيا اجتماعيا يعيش في مجتمعات يسودها نظام واتساق ثقافي معين، وعلى ذلك يمكن التنبؤ بمستقبله معتمدا على تطوره ومدى ارتقائه؛ ولعل تلك النظرة الشمولية لهذا العلم هي ما شكلت جسرا رابطا بالضرورة بين علوم مختلفة كان لها تأثيرها عليه، ومع هذا نظر إليه كعلم حديث عهد بالمقارنة مع تاريخ تلك العلوم، ومنها الطب والفلك والفلسفة والاجتماع، فقد ذكر الباحث الفرنسي “جان بوارييه” أن علم الأنثروبولوجي قد ظهر أولا في كتابات علماء الطبيعة إبان القرن الثامن عشر، وقد تمددت فروعه وتقسيماته في النصف الأول من القرن العشرين، وكان قد أعاد بعض العلماء أصوله إلى أبعد من ذلك بكثير، وكانت مصادرهم لهذا الاعتقاد تستند على ما كتبه في هذا العلم “فيثاغورث” العالم اليوناني القديم.

 

الأنثروبولوجي والإسلام

الأنثروبولوجي بدأ مع بداية وعي الإنسان بذاته، وبدأ مع سعيه للتفاعل مع البيئة من حوله ومع أبناء جنسه، وبدأ منذ كون الإنسان مجتمعه الأول الذي انبثق منه ما انتشر بعد ذلك من جماعات بشرية مختلفة، إلا أن هذا الاهتمام بالإنسان ليس نتاج علم أرضي فقط، بل كان هو محور الديانات ورسالات الأنبياء، وقد عنت به الكتب السماوية التي أنزلت للعباد من خلقه ليؤمنوا بكل ما جاء بها، وآخرها القرآن الكريم، وهو الأمر الذي يمكن القول معه إن هذا العلم يصلح لأن يكون علما دينيا أيضا، وبالتالي علما إسلاميا بامتياز، وقد وضع أسسه الكتاب والسنة المشرفة، ثم كان ما أدت إليه حركات الرحالة والمستكشفين والمفكرين الذين نقبوا طويلا للبحث عن التجارب الإنسانية والمقارنة بين المجتمعات البشرية، اهتداء بقوله تعالى: “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق”.

وعلى هذا الأساس ربما كانت الدعوة للعودة إلى فكرة تعميق دراسة مدى إسهام الفكر الإسلامي في كثير من العلوم ليست بالمستنكرة، وفي هذا الصدد قد انطلقت محاولات “السيد محمد باقر الصدر” التي تجلت في كتابه “فلسفتنا” وكتاب آخر عنوانه “اقتصادنا”، فضلاً عن الحركة العلمية التي هدفت إلى الرجوع بكثير من العلوم إلى المفكرين الأصليين من المسلمين، وكانت بدايتها على يد “الشيخ مرتضى المطهري”.

ولنعلم أن علم الإنسان الإسلامي لا يفتقر إلا إلى الدراسات المستفيضة والمستمرة والمؤمنة به، بعد أن ظل ردحا طويلا من الزمن أسيرا لنظرة ثقافية غربية محددة لا مصدر لتكوينها إلا الوجود الحسي فقط، فيما كان الوحي مصدرا أوليا مهما لعب دورا بارزا في المعرفة الإنسانية، ولم ينظر إليه أبدا على هذا الأساس.

ربما كانت الدعوة للعودة إلى فكرة تعميق دراسة مدى إسهام الفكر الإسلامي في كثير من العلوم ليست بالمستنكرة، وفي هذا الصدد قد انطلقت محاولات “السيد محمد باقر الصدر” التي تجلت في كتابه “فلسفتنا” وكتاب آخر عنوانه “اقتصادنا”، فضلاً عن الحركة العلمية التي هدفت إلى الرجوع بكثير من العلوم إلى المفكرين الأصليين من المسلمين، وكانت بدايتها على يد “الشيخ مرتضى المطهري”.

القرآن الكريم وعلم الإنسان

“علم الإنسان” من الممكن أن يكون علما قرآنيا بجدارة، وعندها سيتخذ هذا العلم من القرآن والسنة الشريفة مرجعية ومنطلق لخلق صياغة وتصور جديد وحقيقي نابع من الواقع وبعيد عن الهيمنة المادية على هذا العلم، وذلك بما يحفظ للإنسان تفرده وموقعه الحقيقى، فلم يكن التعدد الشكلي واللوني واللساني إلا عنصرا للتنوع ونوعاً من إثراء قوة المجتمعات البشرية، وهو ما نراه في قوله تعالى: “من آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين”. صدق الله العظيم، ولربما كان في القرآن الكريم ما يدحض ما جاء مثلا في نظرية النشوء والارتقاء وقصة التطور، وهي كما قلنا أحد فروع علم الإنسان التي تقول بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه النسل في اللون الآخر، وبذلك يصبح لكل نوع ولون أب رئيسي أو آدم خاص به، وهي النظرية القائلة أيضا إن الإنسان الأول لم يكن كاملا، بل يرجع في أصله إلى كونه حشرة أو قرد، أي أن الإنسان قد بدأ من التطور الأدنى، مع العلم أن الله سبحانه وتعالى يقول: “الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين” صدق الله العظيم، لذلك كانت دراسة الإنسان من منطلق إسلامي أو قرآني مرجعا ضروريا لتأصيل هذا العلم على الوجه الصحيح وعلى المرجعية الربانية الحقة.

إن أكثر الكتب الخاصة بالأنثروبولوجي على أساس غربي محض، وتحديدا في فروع مثل علم الآثار أو التاريخ، تبين أن هناك آراء غير صحيحة أصبحت من المسلمات فيه، وقد قيلت وانتشرت هذه الأفكار كالنار في الهشيم، ومنها بدائية الإنسان وتطور مراحل عمر الجنس البشرى، من المرحلة الأولى محدودة العقل بالفطرة، إلى مرحلة التعقل، فيما يقول الخالق عز وجل: “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” صدق الله العظيم، أي أنه قد وضع به في أول خلقه العقل المفكر المتأمل، بحيث استطاع التكيف مع بيئته المحيطة وأن يدافع عن نفسه ضد المخلوقات الأشرس منه، كما أمكنه خلق مجتمعات متعارفة فيما بينها، مما أسهم في استمرارية بقائه، وهذا ينافي ما جاء به الغرب في هذا الموضوع.

 

ميلاد الأنثروبولوجيا الإسلامية

“ميريل ويفز” مدير المعهد الإسلامي في لندن وأحد دعاة الأنثروبولوجيا الإسلامية، رأت نكران الغرب لدور الإسلام والمسلمين من الرحالة والمستكشفين في التوصل إلى أقرب معنى للأنثروبولوجيا، وقالت إن هؤلاء قد أسهموا برحلاتهم وكتبهم ومراجعهم المهمة التي تعد منبعا حقيقيا لدراسة علم الإنسان الذي عاش في جماعات ومع أجناس مختلفة، وربما قد اقتضت الضرورة التي أحدثتها الفتوحات الإسلامية عمل ذلك، فكان الاهتمام جليا بدراسة أحوال البلدان المفتوحة وطبيعة الناس التي تعيش بها لسهولة إدارتها على أسس سليمة، إلا أن هذا لا يلغي غاية الرحالة والمستكشفين الأساسية، وهي الغاية العلمية من المعرفة، لذلك برز دور هؤلاء العلماء في سبيل وضع كتب ومراجع ومعاجم تدرس البلاد الممتدة جغرافيا، فكان حصاد ذلك العديد من الروافد المهمة، ومنها معجم البلدان لياقوت الحموى، ومسالك الأمصار لابن فضل العمري ونهاية الأرب في فنون العرب للنويري وعادات الشعوب للسعودي وكتاب البلدان للجاحظ، بالإضافة إلى رحلات ابن بطوطة التي استمرت ٢٥ عاما حول العالم، وبرز فيها وصفه للإنسان وحياته اليومية وعاداته وتقاليده في كل بلد زارها، وكلها أعمال تميزت باعتمادها على عنصر المشاهدة عن قرب والتجربة الشخصية، مما جعلها مادة خصبة ومفيدة في دراسة علم الإنسان في حقب مختلفة.

 

الأنثروبولوجيا الإسلامية والمستقبل

إن ممارسة التفكير الأنثروبولوجي بكل آلياته وقواعده على أسس سليمة قائمة على مبدأ عدم إخفاء دور الإسلام والمسلمين في المعرفة الإنسانية لإخراجهم من هذا العلم الذي يردونه غربيا فقط، هي محاولات تؤدي حتما إلى دراسات مغلقة تركن الى التضليل والاضطهاد والقمع والظلم وتكريس العنف والعنف المضاد، بما لا يمكن معه التوصل إلى منظومة أساسها الذهنية الإنسانية المتفتحة التي تدافع عن الإنسان في المقام الأول وتهدف إلى دراسته بحق.

وعلى هذا يجب أن تسعى النظرة المعاصرة للأنثروبولوجي إلى المقاربة بين ما وضعه الشرق الإسلامي وما أسهم به العلم الغربى، دون التميز في الأصل العقائدى، وذلك يحرر هذا العلم من أفقه الضيق والإقصائي ويمنح بعداً أوسع للمنظومة المعرفية، وليس من المتوقع أن تكون ثمرة هذا الجهد ملموسة في القريب العاجل في ظل الهيمنة العلمانية بوجهها الذي يهدف للسيطرة على التفكير في العالم، والتي تسعى إلى انتشار الجهل بشكل مقصود وغير المقصود في بلدان العالم الثالث، بالإضافة إلى رغبتها في خلو الساحة الإسلامية إلى حد ما من رموزها المفكرين الكبار، حيث تهدف تلك الهيمنة العلمانية إلى استخدام الدين كأيدولوجية للصراع أكثر منها للتقارب الإنسانى، لكن الأمر لا يخلو من الأمل، فهناك من لا يزال يحارب في هذا المجال.


إيمان عبد الكريم – كاتبة مصرية

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.