كيف انتقلت الرهبانية من مصر إلى بلاد الرافدين والشام؟
ردنا – عرفت المسيحية طريقها إلى بلاد الرافدين والشام منذ فترة مبكرة من القرن الأول الميلادي، ولم يمر وقت طويل حتى سلك العديد من السريان طريقهم نحو الرهبانية، فالتزموا بالزهد والنسك، وأقاموا الأديرة العظيمة في الصحاري والبراري.
والرهبنة التي بدأت في مصر خلال القرن الثالث الميلادي على يد كل من القديس أنطونيوس والقديس باخميوس، والقديس أوكين القبطي، انتقلت الرهبنة على يد الأخير إلى بلاد العراق وسوريا.
بحسب ما ورد في كتاب “السنكسار القبطي”، وهو الكتاب الذي يضم “سير القديسين والشهداء والآباء في الكنيسة القبطية”، فإن القديس أوكين وُلد في مصر بمنطقة القلزم قرب البحر الأحمر، وعُرف بين الناس بأعماله الصالحة وبرفقه بالمرضى والمساكين.
بدأ أوكين حياة الرهبانية في صعيد مصر، بعدها سافر إلى العراق لأسباب غير معروفة، واصطحب معه في تلك الرحلة 70 تلميذاً له، واختار بعد فترة من الترحال منطقة نصيبين ليقيم فيها، وهي مدينة في محافظة ماردين جنوب شرق تركيا، وسكن هناك في إحدى المغارات الجبلية، ومن حوله سكن تلاميذه، لمدة ثلاثين سنة. وقصده الكثير من المسيحيين ليدرسوا عليه أصول الرهبنة.
كان القديس يعقوب النصيبي واحداً من هؤلاء الدارسين الذين مثلوا الرعيل الأول من الرهبان السريان. يذكر مار فيلكسينوس يوحنا دولباني في كتابه “قصة مار يعقوب النصيبي”، أن يعقوب ولد في نصيبين، وعُرف بتنسكه وتواضعه، وكان يأكل القليل من الطعام، كما كان يرتدي ثياباً متواضعة، واشتهر بين الناس برعايته لليتامى والأرامل.
بحسب التقليد المعروف فإن يعقوب تولى منصب أسقفية نصيبين، وشارك في أعمال مجمع نيقية في سنة 325. ولما رجع إلى نصيبين بنى ديراً كبيراً، وقضى ما بقي من حياته في التبشير بالمسيحية بين الوثنيين.
القديس أنطونيوس (251 – 356 م)، يعتبر “أب الأسرة الرهبانية” بالرغم من وجود حركات رهبانية سابقة
بعد انتشار المنهج الرهباني على يد يعقوب النصيبي أخذت الرهبنة في العراق وسوريا شكلها الجماعي في القرن الرابع الميلادي، كما يقول الباحث عماد توماس في دراسته”تاريخ الرهبنة السريانية”.
واهتمت الكنيسة السريانية في تلك الفترة بالرهبنة، فأسست مئات الأديرة التي انضم إليها آلاف الرجال والنساء، “ففي القرن الخامس وجد في جبل الرها وحده 300 دير، يقيم فيها تسعون ألف راهب، وفي دير مار متى شرقي الموصل 12 ألف راهب. وفي القرن السادس بلغ عدد الرهبان والراهبات السريان 600 ألف راهب في هذه الحقبة التي تعتبر العصر الذهبي للكنيسة السريانية، وبرز فيها نُساك يُعتبرون من أقطاب الزهد والنسك، لا في الكنيسة السريانية حصراً، بل في المسيحية جمعاء”.
أشهر الرهبان
تحتفظ لنا الكتابات السريانية بأسماء العديد من الرهبان الذين اشتهر أمرهم بين الناس. وذاع صيتهم بسبب ما نُسب إليهم من كرامات وخوارق. يحكي ثيودوريتوس أسقف قورش في كتابه “تاريخ أصفياء الله” قصص العديد من هؤلاء الرهبان، منهم مارون الناسك الذي ولد في شمالي سوريا في منتصف القرن الرابع الميلادي، ودرس في أنطاكية ثم اختار أن يهجر الحياة العامة، واعتزل في أحد الجبال في منطقة قورش الواقعة شمالي غربي مدينة حلب.
بنى مارون صومعة صغيرة، وتجمع الناس من حوله، وفي منتصف القرن الخامس الميلادي، شيّد الإمبراطور البيزنطي مرقيانوس ديراً كبيرا بجوار بلدة معرّة النعمان تكريماً لمارون، وانتسبَ كثيرون إلى هذا الدير فعُرفوا باسم رُهبان دير مار مارون.
القديس مارون الناسك، ناسك وراهب وكاهن، عاش في شمال سوريا خلال القرن الرابع
عرف السريان أيضاً القديس سمعان العمودي الذي ولد في أواخر القرن الرابع الميلادي في شمالي سوريا، وانضم في بداية حياته الرهبانية إلى دير تلعدا الواقع على بعد 30 كيلومترا من مدينة حلب. ثم ترك الدير وعاش على عمود يرتفع نحو 15 متراً عن الأرض.
تذكر التقاليد السريانية أن الرهبان قدموا لزيارة القديس سمعان من شتى أنحاء العراق وسوريا وآسيا الصغرى وبلاد فارس وبلاد العرب.
كذلك عرف العراق الراهب إبراهيم الكشكري الكبير الذي ولد في أواخر القرن الخامس الميلادي، ويُنسب إلى مدينة كشكر الواقعة في منطقة الكوت. قام إبراهيم بالتبشير بالمسيحية في مملكة الحيرة. وبنى ديراً كبيراً في منطقة نصيبين. وتوفى في سنة 586.
حظيت النساء أيضاً بدور مهم في تاريخ الرهبانية السريانية. على سبيل المثال تتحدث المصادر عن الراهبتين مارانا وكيرا اللتين انقطعتا للرهبنة في العراء بالقرب من حلب، واحتذت بهما العديد من النساء، ووصفهما ثيودوريتوس في كتابه بأنهن “جاهدن بعزيمةٍ ليست في شيء أقل من عزائم الرجال؛ لأنّهن على الرغم من طبيعتهن الضعيفة أظهرن من البسالة ما يضاهي شجاعة الرجال”.
أهم الأديرة الأثرية
توجد الكثير من الأديرة الأثرية في كل من العراق وسوريا، ويُعدّ دير “الربان هرمزد” واحداً من أشهر الأديرة المسيحية في العراق.
يقع الدير بالقرب من بلدة القوش شمالي العراق. وبُني على يد أميرين فارسيين في سنة 640، ويُنسب إلى هرمزد الراهب مؤسس الرهبانية الأنطونية الهرمزدية الكلدانية. ظل الدير لقرون مركزاً لكنيسة المشرق التي تبعها الملايين في كل من العراق وبلاد فارس وآسيا الوسطى والصين.
وتعرض الدير للتخريب والتدمير في نهايات القرن الرابع عشر الميلادي على يد الملك المغولي تيمورلنك أثناء غزوه للعراق.
دير “الربان هرمزد”.. بني عام 640 م على يد أميرين فارسيين، ويُنسب إلى هرمزد الراهب
أيضاً يوجد دير مار كوركيس الذي يقع على بعد 9 كيلومتر إلى الشمال من مركز مدينة الموصل، ويتبع الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، ويعود تاريخ تأسيسه إلى ما قبل القرن العاشر الميلادي، وقد خضع للترميم في القرن السابع عشر الميلادي، كما تمت توسعته في بدايات القرن العشرين.
وتعرض الدير للتدمير على يد عناصر تنظيم داعش سنة 2016، وفي سنة 2021، تم افتتاحه بعد إعادة بنائه من جديد.
دير مار كوركيس في الموصل.. تم إعادة بنائه عام 2021 بعد أن دمره تنظيم داعش عام 2016
في سوريا، توجد العديد من الأديرة المشهورة في بلدة صيدنايا الواقعة في محافظة ريف دمشق، التي تبعد حوالي 25 كيلومترا شمالي العاصمة السورية دمشق.
من تلك الأديرة دير سيدة صيدنايا. جاء في كتاب “أديرة الكرسيّ الأنطاكيّ” الصادر عن جامعة البلمند، أن هذا الدير احتل مكانة عظيمة في نفوس المسيحيين السريان عبر القرون “فكان الحجّاج في طريقهم إلى الأراضي المقدّسة، يتوقّفون في صيدنايا، للصلاة أمام أيقونة العذراء العجائبيّة وطلب بركتها. ويروي التقليد أنّ القدّيس لوقا، هو الذي رسم هذه الأيقونة، التي نُسب إليها العديد من المعجزات في مختلف المراحل الزمنيّة”.
تذكر الروايات الشائعة بين المسيحيين السوريين أن الإمبراطور يوستينيانس الأوّل قام ببناء الدير في القرن السادس الميلادي. وتذكر الأسطورة أنّ الإمبراطور كان يصطاد في صيدنايا فظهرت له العذراء مريم وأمرته ببناء دير على الصخرة العالية التي كانت هي واقفة عليها. استجاب يوستينيانس لهذا الأمر وقام ببناء الدير، ولمّا تم الانتهاء من بنائه أصبحت ثيودورا، أخت الإمبراطور أول رئيسة للدير.
دير سيدة صيدنايا.. يبعد عن دمشق مسافة 30 كم، وقد تم إنجاز هذا الدير عام 547 م
على بعد 7 كيلومتر من صيدنايا يقع دير آخر مشهور، وهو دير الشيروبيم، والشيروبيم كلمة آرامية الأصل تعني الملائكة.
تحدث الرحالة المسلم شهاب الدين العمري في كتابه “مسالك الأبصار” عن هذا الدير، فقال “هو دير مار شاربين ويُقصد للتنزه، من بناء الروم بالحجر الجليل الأبيض، وهو دير كبير، وفي ظاهره عين سارحة، وفيه كوة وطاقات تشرف على غوطة دمشق وما يليها من قبليها وشرقيها، وفيها ما يطل على بواطن ما وراء ثنية العقاب، ويمتد النظر من طاقاته الشمالية إلى ما أخذ شمالاً عن بعلبك”.
يحتوي الدير على التمثال المعروف باسم “جئت لأخلص العالم”، الذي نُصب للمرة الأولى في سنة 2013، وهو أكبر تمثال للمسيح في العالم العربي.
وبحسب موسوعة “قنشرين للكنائس والأديرة”، فإن هذا الدير بُني في القرن الثالث الميلادي أثناء فترة اضطهاد المسيحيين من قبل الوثنيين، وأصبح أنقاضاً في القرن السادس عشر، وأعيد بناؤه سنة 1982 في عهد البطريرك أغناطيوس الرابع، على يد الأم كاترين أبي حيدر رئيسة دير “سيدة صيدنايا” البطريركي.