كيف اندمجت ظاهرة البصق على المسيحيين مع الصهيونية الدينية؟

ردنا – لظاهرة البصق على الرموز الدينية المسيحية وعلى المسيحيين حكاية تاريخية لدى اليهود الأشكناز في أوروبا، حيث اعتادوا البصق لدى المرور بجانب الكنائس كتعبير عن النفور والاشمئزاز، ويبدو أن العادة الأشكنازية القديمة اندمجت جيدا مع وجهات نظر دينية حديثة متشددة.

عمليات البصق على رجال الدين والحجاج المسيحيين في القدس، والتي بدأت كحالات فردية من قبل فتية من اليهود الحريديين، تحولت مؤخرا إلى ظاهرة عامة شملت مختلف الأعمار وامتدت إلى اتباع الصهيونية الدينية وحتى جنود متدينين في جيش الإحتلال، وطالت جميع المسيحيين من زوار وحجاج وكهنة ورجال دين وكل فتاة وشاب وعجوز يلبس الصليب.

كما أن عملية البصق بما تحمله بحد ذاتها من إهانة وتحقير تترافق عادة مع وابل من القذف والسب والشتم والحركات اليدوية المشينة، وتطال المسيرات الدينية والكنائس ودور العبادة، وهي تشكل جزءا عضويا من عمليات الانتهاك والتنكيل والاعتداء التي يتعرض لها المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين ومقدساتهم في المدينة المحتلة.

وتحظى هذه الاعتداءات كما يبدو بتسامح رسمي وبتغطية شبه رسمية من الدوائر المسؤولة عن تطبيق القانون والحفاظ على أمن المواطنين في المستويين المحلي والعام، فناهيك عن مشاركة نائب رئيس بلدية الاحتلال، أرييه كينغ، بنفسه في تظاهرة جرى خلالها عمليات بصق واعتداء على مصلين مسيحيين والتنكيل بهم، فإن وزير ما يسمى بالأمن القومي، إيتمار بن غفير، شرعن هذه الاعتداءات صراحة عندما قال إنها لا تعتبر مخالفة جنائية ولا تستدعي اعتقال منفذها، وهو ما يفسر تساهل الشرطة الإسرائيلية مع منفذيها.

أما الحالات النادرة التي وصلت إلى المحكمة فقد انتهت بأحكام مضحكة أقصاها إبعاد المعتدي عن القدس لمدة أسابيع فقط، هذا في وقت تم الحكم فيه على الشيخ رائد صلاح بالسجن لمدة سنة وثلاثة أشهر تسعة منها بشكل فعلي، إضافة الى دفع غرامة بقيمة 7500 شيكل بتهمة البصق على أحد أفراد شرطة الاحتلال، واعتبرت المحكمة أن “هذه الفعلة تعبر عن كراهية واستخفاف برجال الأمن الذين يمثلون القانون في دولة إسرائيل”.

الاعتداءات لا تتوقف عند “البصق” فقط، فمؤخرا قامت مجموعة من الشبان اليهود باقتحام كنيسة جبل صهيون في القدس وعبثوا بمحتوياتها وعندما طلب منهم المغادرة كالوا الشتائم وقالوا إن جبل صهيون للشعب اليهودي، كما جرى اقتحام كنيسة أخرى على مقربة من أريحا، هذا ناهيك عن اعتداءات إجرامية أكثر وطأة شهدتها السنوات الأخيرة مثل إحراق كنيسة “الخبز والسمك” في طبرية والاعتداء على كنيسة “البشارة” في الناصرة.

إلا أن لطقس البصق على الرموز الدينية المسيحية وعلى المسيحيين حكاية تاريخية لدى اليهود الأشكناز في أوروبا، حيث اعتادوا البصق لدى المرور بجانب الكنائس كتعبير عن النفور والاشمئزاز، ويبدو أن العادة الأشكنازية القديمة اندمجت جيدا مع وجهات نظر دينية حديثة متشددة تجاه المسيحية لدى أوساط يهودية في إسرائيل، كما يقول الصحافي نير حسون، الذي تتبع في تقرير نشرته “هآرتس” تاريخ هذه “العادة” وانحطاطها إلى هذا المستوى.

حسون أورد على لسان د. كرمة بن يوحنان من قسم العلوم الدينية في الجامعة العبرية قولها إن التوجهات نحو المسيحية شهدت تحولا سلبيا في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث جرى تبني توجهات الرمبام وتعريفه الذي اعتبر المسيحية “عمل غريب”، وذلك بخلاف توجهات أخرى كانت سائدة إلى حينها، وهو تعريف يتساوق جيدا مع “القومية الحردلية الكهانية” التي تؤكد على ضرورة إفناء المسيحية في البلاد. هذه التوجهات هي التي حركت، كما تقول بن يوحنان، مشعلي حريق كنيسة “الخبز والسمك” في طبرية في 2015 وغيرهم من المعتدين على الكنائس التي شهدتها السنوات الأخيرة.

في العام 1995 تم تقديم لائحة اتهام ضد شخص بصق على مسيرة للمسيحيين في حي الأرمن في القدس. وقد حكم عليه بالسجن شهرين ودفع غرامة بمبلغ 750 شيقلا. في الالتماس الذي وصل الى المحكمة المركزية ادعى محاميه، نفتالي فيرسبرغ، بأن حرية التعبير تعطي الشخص الحرية في البصق، حتى على مسيرة رجال دين يحملون الصليب. وقال بأنه لا يمكن تجاهل العادة السائدة في اليهودية، التي بحسبها من المفروض على اليهودي أن يقوم بالبصق عندما يمر من أمام كنيسة أو عندما يشاهد الصليب. مع ذلك، رفض قضاة المحكمة المركزية هذا الادعاء.

في العام 2004 بصق فتى من المدرسة الدينية هار هامور على بطريرك الارمن اثناء مسيرة في البلدة القديمة في القدس. قام البطريرك نورهان ميلوغيان بصفع هذا الفتى، وقامت الشرطة باعتقاله للتحقيق معه. بعد ذلك تم عقد لقاء مصالحة اعتذر فيه حاخامات المدرسة الدينية، وهي من اكبر المدارس الحريدية القومية في إسرائيل، من البطريرك وقالوا إنهم لا يعلمون طلابهم هذه العادة.

في العام 2011 برأ قاضي محكمة الصلح في القدس راهبا يونانيا ضرب شابا يهوديا قام بالبصق عليه. “لا نتحمل اهانة رجل دين مسيحي بسبب دينه، بالضبط مثلما أنه من غير المحتمل أن يهان أي يهودي لكونه يهودياً”، كتب القاضي واضاف بأن السلطات لا تنجح في علاج هذه الظاهرة. “من يقومون بالبصق لا يتم اعتقالهم ولا تتم معاقبتهم على افعالهم. لا يدور الحديث عن ظاهرة جديدة، بل عن ظاهرة توجد منذ سنوات. من يقومون بالبصق لا يتجاوزون فقط القانون أو يمسون بضحاياهم، بل هم يمسون بنا جميعا، بصورتنا وبالسياحة وبقيمنا”. لذلك فقد قرر القاضي تبرئة الراهب بذريعة الدفاع عن العدالة.

أما المفارقة، فإن الاعتداءات المذكورة التي لا تميز بين مسيحي وآخر قد شملت حجاجا إنجيليين من أتباع ما يسمى بالصهيونية المسيحية الذين تعرضوا لوابل من البصاق والشتائم خلال تأديتهم لطقس ديني في أحد شوارع المدينة، بينما تعرضت وزيرة البحث الألمانية للإهانة أيضا خلال زيارتها مؤخرا لـ “حائط المبكى” (حائط البراق) عندما طلبت موظفة هناك من خوري كان برفقتها خلع صليبه بادعاء أنه مستفز، وعندما أجابها بأن هذا جزء من لباسه، قالت: لا نريد لك أن تتعرض لسلوك غير لطيف في ضوء ما يحدث في دروب القدس العتيقة، في إشارة إلى أن إشهار الصليب سيعرضه للبصاق والشتائم من الحضور.

ولكن هذه الإهانات لن تغير شيئا في الغرب المناصر لكيان الإحتلال التي تعتبر جزءا من تاريخه الاستعماري وأداة راهنة لبسط نفوذه في المنطقة.

 

المصدر: عرب48 + صحيفة الأيام

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.