كيف أثّر حرب غزة على عالمَي الفن والأدب في أميركا؟

تظاهرة مؤيّدة لفلسطين أمام المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي

من المفارقات المثيرة للانتباه، والتي يُبنى عليها مستقبلاً في الولايات المتحدة، أن هذا البلد الشريك الفعلي والأساسي بالمذبحة المستمرة في غزة، تشهد هذه الأيام، مجتمعاته الفنية والأدبية والثقافية، انقساماً حاداً وجدلاً كبيراً متصاعداً وغير مسبوق ومعهود، حول ما يجري في تلك البقعة الجغرافية في العالم من مجازر وفظائع متنقّلة.

فمقابل فئة من الفنانين والروائيين والكتّاب، تتحدّى حملات الترهيب والتهديد والوعيد وتتمسّك بمواقفها المساندة لمظلومية غزة وأهلها، بشتى أدوات التعبير والرفض لما يجري فيها، ثمة آخرون – ولا سيما أنصار “إسرائيل” واللوبي الصهيوني في أميركا – يعملون على قمع أي صوت، ومنع أي عمل فني أو أدبي مناهض للكيان.

كما أنهم يتصدّون، بشتى أنواع وسائل القمع وصولاً إلى الفصل من العمل، لكلّ أشكال التضامن والتأييد مع فلسطين وأهلها المسحوقين بآلة الدمار الصهيونية، سواء كان ذلك رسالة، أو رسماً أو نحتاً أو معرضاً.

في الواقع تعصف الحرب على غزة وأهلها، بعالمي الفنون والأدب في الولايات المتحدة. فالتوحّش الاسرائيلي من دون رادع أو وازع، فضلاً عن ارتفاع عدد الشهداء واقترابهم من عتبة 20 ألف شهيد، بينهم أكثر من 6 آلاف طفل. أجبر آلاف الفنانين والكتّاب على التحدّث علناً ضد الحرب الإسرائيلية والمؤسسات التي يعتقدون أنها تفشل بالتنديد بهذه الكارثة.

وبناء على ذلك، قرّر فنّانون سحب أعمالهم من “المتحف الوطني للفنون”، الذي يتلقّى تمويلاً من الكونغرس، احتجاجاً على تقديم واشنطن مساعدات عسكرية لــ “إسرائيل”. في المقابل، انسحب الرعاة من حفل توزيع جوائز الكتّاب الوطني الشهر الماضي، بعد أن علموا أن المؤلفين كانوا يخططون للدعوة إلى وقف إطلاق النار.

وفي حين تمّ تأجيل أو إلغاء بعض المناسبات الأدبية التي كان من المقرّر إقامتها في مختلف المناطق الأميركية، أصبحت المتاحف مواقع للاحتجاج، في وقت انتشرت الرسائل المفتوحة، والدعوات لمقاطعة المنظمات المؤيدة للكيان الغاصب.

أكثر من ذلك، أرغمت الحرب الدموية القيادات النخبوية من أهل الثقافة والأدب والفن على التعامل مع أسئلة وجودية أكبر، حول سلطة وحدود المؤسسات الفنية في هذه اللحظة، بما في ذلك، هل ينبغي للمتاحف أن تحاول البقاء محايدة؟ أم يتوجب عليها القيام بدور نشط في الاستجابة للقضايا السياسية والاجتماعية؟

ولهذا يقول الخبراء إن هذه الأسئلة ليست جديدة تماماً، لكنها اكتسبت زخماً جديداً بعد عملية “طوفان الأقصى”، وأيضاً نتيجة السياسات الحالية والاستقطاب السياسي الأميركي الداخلي المتزايد منذ العام 2016.

وتعقيباً على ذلك، قال جي جي تشارلزوورث، الناقد الفني والمحرّر في مجلة “آرت ريفيو” الأميركية: “أضحت المعارض الفنية والمتاحف وأمناؤها، والأشخاص المسؤولون عن البرامج الفنية، أكثر اهتماماً بفكرة أن المؤسسات والأعمال الفنية لها وظيفة سياسية أو اجتماعية”.

وإذ لفت تشارلزوورث الانتباه إلى أن “فكرة كون المعرض الفني بمثابة مساحة منفصلة أو خاصة معزولة، هي في رأيي فكرة قديمة جداً”، مشيراً إلى أن “المعرض يسبّب احتكاكاً الآن، لأن المصالح التي تدعم المؤسسات الثقافية، خصوصاً في أميركا، لا تشترك دائماً في السياسات نفسها التي يؤيّدها الفنانون”.

امتد تأثير الحرب الدموية على القطاع إلى المتاحف الأميركية التي لم تكن بمنأى عن أهوالها. فبعض هذه المتاحف تعرّض لردّ فعل سلبي بسبب إلغاء فعاليّاتها، وعدم إظهار الأعمال الفنية التي ترمز إلى مناصرة فلسطين، وتعتبر غير مرغوبة لأنصار “إسرائيل”.

وتبعاً لذلك، شهد متحف “إل باريو” في مانهاتن انتقادات من الفنانين في أواخر تشرين الأول/أكتوبر بسبب قراره تجنّب عرض قطعة فنية تبرز العلم الفلسطيني بشكل واضح.

أما على المقلب الآخر، فقد عمد القائمون على “متحف فريك بيتسبرغ”، (متحف فني في ولاية بنسلفانيا) إلى تأجيل معرض يضيئ على “10 قرون من الفن الإسلامي”، بذريعة الخوف من أن يصبح المعرض “مصدراً للإساءة غير المقصودة” (وطبعاً المعنيّ هنا إسرائيل)، الأمر الذي دفع بمديرة فرع بيتسبرغ لمجلس العلاقات الأميركية الإسلامية كريستين محمد، إلى إصدار بيان قالت فيه إن: “قرار تأجيل معرض الزخرفة الثمينة:​​ بحجة الإضرار المحتمل باليهود (أي إسرائيل)، يديم الصورة النمطية الضارة بأن المسلمين أو الفن الإسلامي مرادف للإرهاب أو معاداة السامية”.

 

المؤسسات الثقافية الداعمة لـ “إسرائيل”

بالنسبة للمؤسسات الثقافية اليهودية التي دعمت “إسرائيل” تاريخياً، فإن الحرب جعلت من الصعب عليها الاستمرار في العمل بالنظر إلى رفضها ومقاطعتها جميع الأعمال المعارضة للحرب على غزة.

ففي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ألغى 92nd Street Y، New York  (وهو مركز ثقافي ومجتمعي عالمي يتواصل الناس عبره من جميع أنحاء العالم من خلال الثقافة والفنون والترفيه والمحادثة)، ألغى حدثاً فنياً مع كاتب مشهور انتقد “إسرائيل”، وهو فييت ثانه نغوين، المؤلف الأميركي الفيتنامي الحائز على جائزة “بوليتزر”، بسبب تصريحاته العلنية حول الأزمة.

وما زاد الطين بلة، أن نغوين وقّع على خطاب يشير إلى مؤرخ إسرائيلي يصف تصرّفات الحكومة الإسرائيلية في غزة بأنها “حالة كتابية للإبادة الجماعية”. وقد أثار القرار انتقادات بأن المنظمة كانت تخنق الأصوات التي لا تتّفق معها.

أما التداعيات فكانت كبيرة. إذ استقال موظفو مركز الشعر في 92NY احتجاجاً على قرار الإلغاء، كما انسحب كتّاب آخرون من الأحداث القادمة. أما المنظمة، فأعلنت منذ ذلك الحين أن سلسلتها الأدبية معلّقة، بينما تدرس خطواتها التالية.

 

وسائل التعبير لليهود المعارضين لـ “إسرائيل”

إضافة إلى الرسالة المفتوحة الموجّهة إلى 92NY ، والتي وقّعها كلّ من نغوين والروائية الأيرلندية سالي روني، قامت مجموعة تضم أكثر من 1800 كاتب يهودي، بينهم نعومي كلاين، وتافي جيفينسون، بنشر رسالة في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، تتنصّل من فكرة أن انتقاد “إسرائيل” كان بطبيعته معادياً للسامية.

وجاء في الرسالة: “نحن كتّاب وفنانون وناشطون يهود نرغب في التنصّل من الرواية المنتشرة بأن أي انتقاد لإسرائيل هو في جوهره معاد للسامية”.

وعلى المنوال ذاته، أصدرت مجموعة أخرى تدعى” كتّاب ضد الحرب على غزة”، بياناً تضامنياً مع الشعب الفلسطيني، أعربت فيه عن معارضتها “لإسكات الأصوات الإعلامية المخالفة، والعنصرية والتحريفية”.

وقد انضم إليهم في كتابة الرسائل المفتوحة، مؤلفون شاركوا في “مهرجان فلسطين للأدب”، وباحثون درسوا فلسطين و”إسرائيل”، وأعضاء في وسائل الإعلام انتقدوا قتل “إسرائيل” للصحافيين، والطريقة التي غطت بها وسائل الإعلام الأميركية العدوان على غزة.

إلى جانب ذلك، كانت لهذه الرسائل تداعيات وانعكاسات سلبية جداً على أصحابها أو الموقّعين عليها، بعدما أدت في كثير من الأحيان، إما إلى استقالة أو إلى طرد شخصيات بارزة بسبب ارتباطاتها.

ولهذه الغاية طُرد ديفيد فيلاسكو، رئيس تحرير مجلة Artforum، في أواخر تشرين الأول/أكتوبر لنشره رسالة مفتوحة على موقع المجلة، موقّعة من قبل مئات من أعضاء مجتمع الفنون، حيث دعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، كما قالت الرسالة إن هناك “أدلة وافرة على أننا نشهد تطوّر إبادة جماعية”.

في المحصّلة، وبعدما أوضح العديد من الفنانين والكتّاب الأميركيين أين يقفون، وبغض النظر عن ردود الفعل العنيفة التي واجهتهم من قبل المنظمات والجهات المانحة المرتبط باللوبي الصهيوني في الغالب، فإن هذه الحراك والانقسام، بدأ في إحداث تحوّل مهم في عوالم الفن والأدب والثقافة، التي استطاع قسم كبير من روّادها،  كسر حاجز الخوف بشأن “شمّاعة” معاداة السامية، وبالتالي باتوا أكثر اقتناعاً بحقيقة أن “إسرائيل” ليست “حمامة سلام” كما جرى تصويرها، بل هي “دولة” ترتكب المجازر ويجب إدانتها ورفع الصوت ضدّها.


علي دريج – الميادين

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.