الصيام عبر التاريخ الإنساني – دراسة مقارنة (1)

إن المتأمّل في حياة الشعوب عبر التاريخ الإنسانيّ، والدّارس لسلوكياتها النفسية والاجتماعية، يلاحظ أن الصوم بمعناه العام، أي الامتناع عن الطعام والشراب والملذّات، كان واردا في معظمها بطرقٍ مختلفة، يكاد يجمع بينها التوجّه نحو تهذيب الغرائز.

وقد أكّد ذلك ما جاء في الذكر الحكيم من قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾ (البقرة 183)، ونفهم من مضمون الآية أمرين، أولهما أن الصيام كان مكتوبا على الشعوب السابقة، وثانيهما أن أهمّ أهدافه هي التقوى (لعلكم تتّقون).

انطلاقا من هذين الأمرين، سنحاول أن نرصد بعض معالم الصيام وشرائطه وضوابطه وأهدافه في الأمم الغابرة، ثم ننتقل إلى الصيام في الإسلام، لنرى الفارق بينهما، ونكتشف علة وتفوّق هذا التشريع الإلهيّ العظيم وآثاره على الإنسان والمجتمع البشري.

مما لا شكّ فيه أن الإنسان قد حاول في إطار سعيه إلى التكامل، أن يسلك طرقًا مؤدّيةً إليه، سواء عن طريق الاكتشاف والتجربة، كما كان حال الشعوب الوثنية التي لا تنتمي إلى الأديان السماوية، أو عن طريق اتباع الأوامر الإلهية، كما هو حال الشعوب المتّبعة لديانةٍ سماويةٍ معينة.

ومع أن مرجعية الأمر الإلهيّ قد تكون هي الأصل في كلّ الأحوال، لاعتقادنا الراسخ أن الشرائع السماوية هي الأسبق، وقد بدأت مع أول خطوةٍ خطاها الإنسان على سطح هذه الأرض، إلا أن البحث في بعض الأحيان قد ينأى عنها، باعتبار أن الهدف الأساس هو تتبّع مغزى الصيام في كل حالة، ومن ثم الوصول إلى نتيجةٍ تكون هي خلاصة البحث، واكتشاف الصيام الكامل الأمثل الذي يواكب الطبيعة البشرية بكل تفاصيلها، كما أراد الخالق وشاء.

أولًا: الصيام عند الشعوب الوثنية: انطلاقًا من حقيقة أن الشرائع الإلهية وجدت مع وجود الإنسان على الأرض، باعتبار أن آدم أبا البشر (ع) هو الإنسان الأول والنبي الأول وحامل أول شريعةٍ إلهية، نخلص إلى أن الصوم عند الشعوب الوثنية التي ضلّت السبيل في خضمّ أهوائها ونوازعها، يرتكز أصلًا على الصوم التشريعيّ الإلهيّ، والشاهد هو الآية الكريمة السابقة (كما كُتب على الذين من قبلكم)، وإن كان قد أخذ أشكالًا أخرى، ويمكن لنا أن نتتبّع باختصار ظاهرة الصوم في أبرز تلك الشعوب.

  • الصوم عند الفراعنة: كان المصريون القدماء يصومون بأن يمسكوا عن الطعام لمدة شهرٍ كامل، يختمونه بما يسمى العيد الأكبر، ويتابع الكهنة الصيام لأسبوعٍ إضافيٍّ فوق صيام العامة، فلا يحتفلون بالعيد معهم، مما يعني أن الصيام عندهم كان ينقسم إلى قسمين: صوم الكهنة وصوم العامة. ولعل أهم أهداف الصيام عندهم زيادة مناعة الجسم وحضور البعد الروحي المتّصل بالآلهة.
  • الصوم عند الإغريق: نظرا لاهتمام الإغريق بالفلسفة، واتّباعهم لمنهجيةٍ حياتيةٍ اجتماعيةٍ تدمج السلوك الإنسانيّ بالمفاهيم الفلسفية، فقد كان للصيام أيضا فلسفته الخاصة عندهم، حيث كان الصوم عندهم سلوكًا يؤهل الإنسان للنظر الفلسفي الصحيح، وحمية طبية لحفظ الأبدان أكثر منه شعيرةً دينية، وبما أنهم كانوا يؤمنون بتعدّد الآلهة فقد كانوا يصومون لكلّ إلهٍ أيامًا معيّنة.
  • الصوم عند الرومان: تأثّر الرومان بشعيرة الصوم اليونانية، ولكنهم زادوا عليها التقشّف والزهد، فأمعنوا في حرمان أنفسهم من متع الطعام والشراب للتخلّص من الذنوب والخطايا، أو طلبا للصفاء الذهنيّ، كما أنهم كانوا يصومون استعدادًا للحروب، أو عند حصول الكوارث، أو تمهيدًا لتلقّي النبوءات، بمعنى أنهم كانوا يدرّبون أنفسهم على الصبر من خلال الصوم.
  • الصوم عند السومريين والبابليين: كان السومريون والبابليون يطلقون على الصوم اسم “شبتو”، وهو اسمٌ يطلقونه على أيامهم المقدسة التي يتفرّغون فيها للعبادة والصوم، ويحرّمون كل ما عداهما، ولعل جذر الاسم له علاقة بالسبت المقدّس عند اليهود. وكان الكهنة السومريون يوصون الناس بالامتناع عن أكل بعض الأنواع من الأطعمة، ويرى بعض الباحثين أن سبب ذلك ربما كان اقتصاديًّا ولكن الكهنة كانوا يعزونه إلى الجانب الديني، أما البابليون فكانت لهم طريقةٌ محدّدةٌ في الصيام، إذ يقسمون أيام الصيام على فصول السنة،ويكون مجموعها حوالي ثلاثين يومًا.
  • الصوم عند الهنود: يعطي الهنود الجانب الصحي أهمية كبيرة، فيمارسون الصوم باعتبار أنه يمنح الإنسان القوة والقدرة على المقاومة، كما أن الهندوس يعتبرون الصوم أحد الوسائل الروحانية للتأمل والتخلص من الشوائب التي تعلق بالروح نتيجة انغماسها في زحمة الحياة ومشاغلها، بالإضافة إلى السعي لإرضاء الآلهة. وتختلف أيام الصوم وطرائقه من منطقةٍ لأخرى، كما تختلف بحسب الإله الذي يتّبعونه… وتختلف كيفية الصوم أيضًا، بين الامتناع عن نوعٍ من الأطعمة، وهو صيامٌ خفيف، وبين الامتناع عن الطعام كلّيًّا حتى الهلاك.
  • الصوم عند البوذيين: يرى البوذيون أن الصوم هو جوهر التعبّد، بناءً على قول بوذا: “إذا أردت لروحك أن ترتقي فابتعد عن متعة الجسد”، حيث يقوم الإنسان بالمكوث سبعة أيامٍ في المعبد عندما يمارس شعيرة الارتقاء بالروح إلى المقامات العليا، بحسب معتقدهم.

يطول المقال ويضيق المجال عن الإحاطة بكلّ ما يتعلّق بالصوم عند الشعوب الوثنية عبر التاريخ، التي اختلفت في كيفية صومها وأسبابه وأهدافه، ولكنها جميعًا اجتمعت على أن للصوم أبعادًا ماديةً وأخرى روحية، ولا ريب في أنها أيضًا ارتكزت على الصيام المفروض أساسًا في الشرائع الإلهية، ولكن كلّ دينٍ حوّر تلك الشعيرة وبدّلها بما يناسب معتقده.

ومما لا شكّ فيه أن مقارنة هذه الشعيرة مع الصيام في الإسلام سيخلص بنا إلى نظرةٍ شموليةٍ تسمح برؤيةٍ إنسانيةٍ عالميةٍ للصيام الإسلامي، ولكن التدرّج في البحث يفرض علينا أن نعرّج على الصيام في الأديان السماوية، وهو ما سيكون محورا للمقالة المقبلة إن شاء الله.


رجاء محمد بيطار – كاتبة لبنانية

مواضيع إضافية
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.